.

الحاكميّة تداهم لودريان والتوتّر الإقليميّ لا يُسعفه

كتب وليد شقير في “أساس ميديا”

ليس مجافاة للحقيقة توقُّع أن يتناول لودريان في زيارته معضلة الفراغ في حاكمية مصرف لبنان بانتهاء ولاية رياض سلامة بعد أقلّ من أسبوع. وليس غريباً أن تهتمّ العواصم الرئيسة المعنيّة بلبنان بمصير الحاكميّة. فإذا كانت بعض الدول تتعاطى مع البلد من منطلق أنّه يحتاج إلى مساعدات إنسانية غذائية، طبّية وتربوية… منذ اندلاع أزمته الاقتصادية الماليّة صيف 2019، ثمّ بعد انفجار المرفأ صيف 2020، فمن باب أولى النظر إلى قضية الفراغ في الحاكمية على أساس أنّها قضية “إنسانيّة”، ما دام جميع الخبراء والاقتصاديين يربطون ارتفاع سعر صرف الدولار ومصير ما بقي من احتياط ماليّ في خزائن المصرف المركزي بطريقة معالجة معضلة الحاكميّة التي قد تنعكس ضبطاً لسعر الصرف أو انفلاتاً سيكون تأثيره الأوّل على الطبقات الفقيرة التي ستزداد حالها فقراً ومأساوية وتدهوراً في الحالة الاجتماعية المزرية.
تداهم معضلة الحاكمية مهمّة لودريان الرئاسية من تلك الزاوية “الإنسانية” قبل أن تكون على جدول أعمال باريس وواشنطن وسائر العواصم والبيوتات المالية الدولية التي تتعاطى مع لبنان نظراً إلى الطابع السياسي المهمّ لموقع القرار النقدي والمالي. وهذا الأمر يعيدنا إلى المعادلة القائلة إنّ لبنان يحتاج إلى “إدارة دولية” لشؤونه نظراً إلى عجز الطبقة السياسية الحاكمة عن إدارة شؤونه، وفق ما أثبتته السنوات التي سبقت الأزمة وأعقبتها.

إلا أنّ مصدراً دبلوماسياً فرنسياً أكّد لـ”أساس” أنّ الموفد الرئاسي لن يطرح أي اقتراحات في شأن ملء موقع الحاكم، وتوقع أن يتجنب التصريح في شأنه، نظراً إلى أنه شأن سيادي تحاذر فرنسا التدخل فيه، تجنباً لإثارة أي غبار حول الموضوع، كما حصل باتهام بعض الفئات لها بالتدخل في شأن الرئاسة. ولم يستبعد المصدر الدبلوماسي أن يسأل لودريان عما تنويه السلطات اللبنانية في هذا الصدد. ففرنسا وسائر الدول تهتم بموقع الحاكمية عموماً، من زاوية الاستقرار النقدي، بعد الدعوة إلى أن يشمل الاتفاق على الرئاسة سلة تعيينات تشمل حاكم مصرف لبنان.

طيّ فكرة “الحوار” والتلويح بالعقوبات

إلا أنّ معضلة الحاكمية ليست وحدها التي تشير إلى صعوبة “إحراز تقدُّم” كما وصف بيان “الاجتماع الثاني للمجموعة الخماسية”، في الدوحة في 17 تموز، انتخاب رئيس الجمهورية بعد تسعة أشهر من الفراغ. فالمحيط الإقليمي لمهمّته مليء بالعقبات والعراقيل أمام مهمّته، قياساً إلى الآمال التي عُلِّقت على التوصّل إلى تسوية خارجية تنتشل الرئاسة من عنق الزجاجة. ويمكن تعداد بعض مؤشّرات ما هو ظاهر من التعقيدات الإقليمية كالآتي:

1- عدم تبنّي الاجتماع الخماسي فكرة لودريان الدعوة إلى الحوار بين الفرقاء اللبنانيين أغضب “الحزب” الذي لا مجال للتعاطي مع خياره في الرئاسة وتعطيله، في إطار “الثنائي الشيعي” وحلفائه، نصاب جلسات انتخاب الرئيس في البرلمان، إلا انطلاقاً من أنّهما وسيلة للإمساك بورقة الرئاسة لصالح مفاوضات إيران مع أميركا ومع المملكة العربية السعودية. فتمسُّك “الثنائي” بالحوار هو نوع من ربح الوقت في انتظار اتّضاح الصورة في الإقليم. وهذا ما دفع قادة “الحزب” إلى التعليق على اجتماع الدوحة الخماسي بتكرار رفض “الإملاءات الخارجية”.

2- تلويح الخماسية “بإجراءات” (عقوبات) ضدّ من يعرقلون “إحراز تقدُّم” في انتخاب الرئيس، فهمه “الحزب” على أنّه موجّه إليه وإلى حلفائه. ولذلك قال عضو المجلس المركزي في “الحزب” الشيخ نبيل قاووق: “يعملون على استجلاب قرارات دولية وعقوبات تجاه فريقنا. الاستقواء بالأجنبي يعقّد ويعرقل الحلّ الرئاسي”.
على الرغم من أنّ أوساطاً سياسية لبنانية تعتبر التلويح بالعقوبات بلا فائدة، فضلاً عن أن ليست كلّ دول الخماسية جاهزة لفرضها على شخصيات لبنانية، فإنّ إعادة طرحها من قبل الجانب الأميركي تحديداً، يعني تصعيداً ضدّ “الحزب” امتداداً لتصاعد التوتّر في ميادين أخرى في الإقليم مع “الحزب” وإيران، ولا سيّما سوريا.

انسداد إقليميّ دوليّ من سوريا إلى مضيق هرمز

3- المفاوضات الأميركية الإيرانية السرّية التي كانت قائمة في سلطنة عُمان تجمّدت، حتى إشعار آخر، لأسباب أميركية (اعتراضات قويّة في الكونغرس) وإيرانية. فبعدما كانت هناك مراهنات على أن تنجح في الإفراج عن أرصدة مجمّدة لطهران مقابل الإفراج عن سجناء أميركيين لديها، وتؤدّي إلى شيء من الاسترخاء بين البلدين، انضمّت دول أوروبية في 9 تموز الجاري (بريطانيا، ألمانيا وفرنسا) إلى الاتجاه الأميركي لتصعيد العقوبات الأميركية ضدّ طهران. وتميل مراكز الأبحاث الأميركية المتابعة لتجديد المفاوضات إلى أنّه مع صحّة القول إنّ هذا لا يعني أنّ المفاوضات توقّفت كلّياً، فالأرجح أنّها باتت “رسالة ميتة” حاليّاً. وتفيد المعطيات الدبلوماسية أنّ مسألتين جوهريّتين بالنسبة إلى واشنطن حالتا دون استكمال هذه المفاوضات، وهما:

– مناورات طهران الدبلوماسية في انحيازها إلى موسكو في حرب أوكرانيا، ومواصلتها مدّها بالمسيَّرات والاستعداد لبناء مصنع لها في روسيا. هذا في وقت تعتمد واشنطن قاعدة “إمّا معنا أو ضدّنا” في تلك الحرب. وتجاريها أوروبا في ذلك.
– استمرار التحرّشات من الميليشيات الموالية لإيران في سوريا بالقوات الأميركية هناك لدفعها إلى الانسحاب، وسط تحضير أميركي ميداني لمواجهة النفوذ الإيراني في بلاد الشام عبر مزيد من التنسيق مع قوات “قسد” التي يقودها المكوّن الكردي، وعبر دفع الأخير إلى إعطاء مزيد من الدور والتأثير للمكوّن العربي والسنّيّ في هذه القوات لاجتذابه ضدّ التمدّد الإيراني. فواشنطن قرّرت منذ سنة تعزيز قواتها في سوريا بمواجهة النفوذ الروسي، بعد حرب أوكرانيا. وتتشارك طهران مع روسيا والنظام السوري في هدف دفع واشنطن إلى الانسحاب.

4- اعتبار طهران أنّ اتفاقها مع المملكة العربية السعودية في آذار الماضي فرصة لها من أجل تحقيق هدفها الاستراتيجي الذي تتوافق فيه مع موسكو بأن تكون شريكة في حفظ أمن الملاحة المائية في خليج عُمان ومضيق هرمز، الأمر الذي أثار حفيظة واشنطن، فردّ البنتاغون في 17 تموز، على محاولة طهران احتجاز ناقلتَيْ نفط في 5 تموز بإعلان إرسال مدمّرة أميركية وسربَين من طائرات “إف 16″ وإف 35” لمراقبة أمن الخليج العربي ومضيق هرمز والمنافذ إلى المحيط الهندي.

لا “5+1” ولا فصل لمأزق لبنان عن المنطقة

ليس عن عبث أنّ ما سبق اجتماع الدوحة الخماسي من أفكار حول إمكان ضمّ إيران إلى جهود إنهاء الفراغ الرئاسي لتصبح الخماسية “5+1″، وذلك نتيجة دور طهران المفترض مع “الحزب” الذي يمكن أن يساعد على الإفراج عن الرئاسة، لم يلقَ تجاوباً في إطار الخماسية لاسيما من قبل الجانب الأميركي سواء حين طرحت قطر الفكرة في اجتماع الخمسة في باريس في 6 شباط الماضي، أو في الدوحة. فالدول المعنيّة تعرف أنّ جواب طهران في ظلّ هذه الظروف أنّ “عليكم التحدّث إلى الحزب”. فتُرك الأمر لمحاولات الدوحة من خلال اتصالاتها التي لم تنقطع مع الجانب الإيراني. وقد حطّ مسؤول قطري في لبنان قبل ثلاثة أيام لمدة ساعات زار خلالها الضاحية الجنوبية ولم يُعرف بمن اجتمع، وغادر بعدها مباشرة عائداً إلى بلاده.
في ظلّ هذه اللوحة الإقليمية الملبّدة، ثمّة مؤشّر مباشر يتعلّق بالتوتّر على الحدود اللبنانية الإسرائيلية، ويحتاج إلى مراقبة ما سيؤول إليه في الأسابيع المقبلة. وفي وقت كان لبنان يتقدّم بطلب رسمي من أجل ترسيم الحدود البريّة، وعلم “أساس” أنّ الجانب اللبناني طلب رسمياً من الجانب الأميركي التوسّط في هذا الصدد، لأنّه السبيل الأفضل لخفض التوتّر الحدودي حول نقاط متنازَع عليها، بدا أنّ “الحزب” يفرمل هذا التوجّه بحجّة أنّ حدود لبنان ليست بحاجة إلى ترسيم لأنّها مرسّمة تاريخياً منذ 1923، وهو ما أعلنه الأمين العامّ لـ”الحزب”، وألحق رئيس كتلة “الوفاء للمقاومة” النائب محمد رعد هذا الموقف بالقول إنّ الحدود “لا تحتاج إلى اتفاق ولا إلى تفاهم ولا إلى مسّاحين، حدودنا معترف بها في الأمم المتحدة وعلى إسرائيل أن تنصاع وأن تخرج من آخر حبّة تراب من حدودنا”.

وبينما رأت الأوساط السياسية أنّ الطلب اللبناني للترسيم لم يكن ليتمّ، خصوصاً من قبل الجيش اللبناني، من دون تنسيق مع”الحزب”، واعتبرته مؤشّراً إيجابياً على الصعيد الإقليمي، أطلق اعتراض الأخير التساؤلات عمّا طرأ واستدعى التشدّد في مبدأ التفاوض على الحدود.
تطرح هذه العوامل المجتمعة وغيرها مجدّداً السؤال الأبدي الذي انطلق منذ الحرب اللبنانية في عام 1975: هل يمكن فصل أزمة لبنان عن أزمة المنطقة؟ يتردّد هذا السؤال مع مهمّة لودريان، وإلّا فلا مبرّر لاجتماع دولتين كبريَيْن في العالم، أميركا وفرنسا، وأخريَيْن كبريَيْن في العالم العربي، السعودية ومصر، مع قطر التي تلعب أدوار الوسيط، للبحث في مسألة الرئاسة في البلد الصغير؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى