اقلام

الديانة لن تتحول الى خيانة

“الديانة لن تتحول الى خيانة”

بقلم الاعلامية ريتا بشارة

احببت ان استهل مقالتي بالاسطورة الفينيقية الشهيرة المتداولة عبر العصور والازمنة التي نشأنا عليها واعتدنا الاستماع إليها من جيل إلى جيل وربما لعقود، قد تكون حقيقية ام خرافية. وعندما تم تناقل هذه الأحداث عبر الأجيال، تغيرت التفاصيل وتلاشت في النهاية لتصبح أسطورة. لكن هذه المسألة ليست  صلب موضوعي اليوم ، ولكن الاسطورة المعروفة التي انوه عليها برهة هي قصة            ” ادونيس وعشتروت ” وصراع الالهة انذاك جراء الغيرة والطمع والتملك والسلطة ، وبالتالي كيف كان الفينيقي يصدق ويعبد الالهة التي ليس لها اي وجود حقيقي، بل كانت إما أجسامًا طبيعيّة مؤلّهة كالاجرام السماوية والجبال، أو بشرًا كان لهم أهمية سياسية أو اجتماعية عند أبناء بيئتهم فرفعهم هؤلاء بعد موتهم إلى مصاف الآلهة . لذلك ، هنا نلاحظ مدى حاجة المرء الى العبادة ، حاجة ثابتة لا تتغير ولاتزول مادام هذا الاخير يعيش على ظهر هذا الكوكب ، فإنسان عصر الكهرباء والفضاء بحاجة ماسة إلى ” الدين ” كما كان إنسان عصر الطاحونة اليدوية بحاجة إليه ، فإن”الدين ” هو الوحيد القادر على إشباع بعض الحاجات الثابتة في كيان الإنسان والمخلوقة معه دائماً مهما تطوّرت حياته ونمت سيطرته على الطبيعة ووسائل عيشه فهو يشبع حاجة الإنسان الذي يزاول اليوم عملية تحريك الآلة بقوة “الذّرة” ، كما يُشبع حاجة الإنسان الذي كان يحرث الأرض بمحراثه اليدوي .عندئذ ،بعد الحضارة الفينيقية واساطير الالهة، توالت عدة حضارات وشعوب استقرت في لبنان مثل المصريين القدماء، الآشوريين، الفرس، الإغريق، الرومان، الروم البيزنطيين، العرب، الصليبيين، الأتراك العثمانيين، والفرنسيين التي ترافقت معها الاديان السماوية الى يومنا الحديث.وعبر هذا الزمن التاريخي ، وقعت الحروب “الدينية”  او”المقدسة” المبررة ام المسببة والنزاعات والمواجهات العقائدية  بسبب الاختلافات الدينية في الشرق الاوسط وخاصة في لبنان “فينيقا القديمة” . فيما بعد ، اتى العصر الذهبي الذي اجتمع فيها اللبنانيون في الدين الواحد، دين المحبة والعيش الواحد والانسانية والوئام والمودة . فقد سادت الألفة والتبادل الإنساني والحضاري في أحيان، ومنازعات وعداوات كثيرة في أحيان أخرى بين المسيحيين والمسلمين. كان المسيحيون أول من حمى بعض المسلمين الأوائل في هجرتهم الأولى إلى الحبشة هربًا من بطش قريش، فحماهم النجاشي ملك الحبشة ونصرهم ولبثوا عنده سبع سنين.واذا اشرنا الى حقبة تاريخ الاندلس ، عندما فتح المسلمون الأندلس ووجدوا عددا قليلا من سكانها على الديانة اليهودية، بينما الغالبية العظمى منهم مسيحيون على المذهب الكاثوليكي،نرى ونشهد ان المسلمين انذاك عاملوا نصارى الأندلس معاملة حسنة وفق ما تنص عليه الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة وأقوال السلف الصالح، فتركوا لهم كنائسهم وأديرتهم، ومنحوهم حرية أداء طقوسهم التعبدية، مثل قرع الأجراس داخل الكنائس وخارجها، وظلت الكنائس في الأندلس تقوم بوظيفتها الاجتماعية المتمثلة في عقد الزيجات، وتعميد المواليد واختيار الأسماء لهم، وتسجيل المبايعات والعقود بين المسيحيين، بل اكتسبت الكنيسة الأندلسية خلال الوجود الإسلامي استقلاليتها عن روما مركز البابوية. كما تمتع المسيحيون بحرية تسيير شؤونهم الإدارية، إذ كانوا ينتخبون قمامستهم وقضاتهم بكل حرية ودون تدخل من الحكام المسلمين، وكان هؤلاء المنتخبون يمثلونهم لدى السلطة الحاكمة. زيادة على ذلك استعان المسلمون بنصارى الأندلس في إدارة البلاد، بحيث استشاروهم في مسائل حساسة تتعلق بأمن الأندلس، وأخذوا برأيهم، ووظفوهم في مناصب سامية مثل الكتابة والوزارة، وجندوهم في الجيش، بل وصل بعضهم إلى أعلى المراتب العسكرية، كما اتخذ بعض حكام الأندلس فرقا عسكرية من النصارى لحمايته، ووضع فيهم ثقة كبيرة. من خلال ذلك يمكن القول بأن نصارى الأندلس عاشوا أحسن أوقاتهم في ظل الحكم الإسلامي خلال الفترة المذكورة . بالاضافة الى الحقبة ما قبل الحرب اللبنانية سنة 1975 ، نسنتذكر سويا الايام والفترات التي عاش فيها اللبنانيون المسيحيون والمسلمون،جنبا الى جنب في كل المناسبات السعيدة والحزينة ، نستذكر كيف كان يحتفلون جميعا بالاعياد المباركة ويجتمعون على نفس المائدة ويتشاركون اللقمة الطيبة ويتحاورون ويتناقشون ويتحادثون ويتبادلون الافكار ووجهات النظر والخبرات والاراء والخواطر والتصورات والتاملات من دون فرض اي معتقد على طرف اخر.احيا اللبنانيون لحظات من المودة والسلام ومصافاة الى حتى اتت هذه اللحظة المشؤومة السودوية الدموية ما تسمى بالحرب الاهلية اللبنانية 1975 ، فاندلع القتال في بيروت، و بدأت حقبة سوداء حيث انقسم فيها المشهد إلى “شرقية “و”غربية”، وإلى مسلمين ومسيحيين..

كأن تلك الحقبة تجسد الصراع الطائفي بين الأفرقاء اللبنانيين على المستوى الداخلي، ولكن إذا أقمنا قراءة موضوعية ندرك أن الحرب لم تكن طائفية بل كان خطابها طائفيا لتحقيق مصالح سياسية التي تجذرت وتصاعدت مع الوقت الى حتى الآن. وبدل من ان يستفيد اللبنانيون وخاصة الكوادر السياسية المعنية من التنوع الطائفي والديني الذي هو غنى فكري وثقافي وحضاري اصبحوا يستخدمونه كسلاح واحجية لخلق الفتن ونزاعات تحت الغطاء الديني والعقائدي ، فهنا نشير الى ما ذكرت في بداية النص عن الصراع بين الالهة  وصراع المرء معها ومع اخيه ، فالصراع والتزعزع في الايمان والشك والشر موجود منذ البدء ، ولكن التمسك والخير والسلام  موجود كذلك ، لماذا لا نختار الخيار الثاني اذا ؟ لماذا لا نسامح اخينا الانسان مثل البابا الابيض القديس الذي سامح التركي الذي حاول قتله؟لما لا نستنجد ونطبق فعلا الوصية الجوهرية التي اوصانا بها السيد يسوع المسيح “أحبّوا بعضكم بعضًا كما أنا أحببتكم”؟ في هذا السياق ، كما قال الامام علي عليه السلام عن القرآن الكريم:

“قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون” . وكما قال الامام السيد موسى الصدر:        ” التعايش الإسلاميّ المسيحيّ ثروة يجب التمسّك بها” ؛”إنّ التعايش ليس ملكاً للّبنانيين، لكنّه أمانة في يد اللبنانيين ومسؤوليّتهم وواجبهم وليس حقّهم فحسب”.فالديانة اذن هي مصطلح ترتكز على المبدأ الواحد وهو ” المحبة ” و”تقبل الاخر” عكس ذلك ينقلب المصطلح الى كلمة “خيانة” ، والتي تعنى ليس فقط خيانة كائنا اخر ولكن خيانة “الله” الذي خلقه على الارض واحبه حبا سرمديا غير مشروط .

بناء على ذلك ، يجب علينا جميعا ان نتحاور ونتجالس وان نصغي الى بعضنا البعض لنسترجع الحقبة الذهبية اللبنانية الماضية وان نسترجع مضمون وثيقة عنايا التاريخية ونسترجع الاتفاق البابوي الأزهري لعقد “مؤتمر دولي للسلام” . يجب علينا جميعا ان نعزز ثقافة الحوار بين الاديان وان ننشرها ونبشرها من جيل الى جيل اخر من صغره ، منذ ولادته الى انخراطه في المجتمع من اجل تحقيق السلام والسلم العالمي لتعزيز الوئام ومنع الفظائع ولإنشاء مجتمع متنوع اجتماعيا وثقافيا ليكون مصدر قوة وسلام ووحدة وليس مصدرا للانقسام . “

 اود ان انهي مقالتي باحدى الاقوال المشهورة :

عندما اقوم بفعل جيد اشعر بالسعادة، وعندما اقوم بفعل سيء اشعر بالتعاسة، وهذه هي ديانتي”.”

” ابراهام لنكلن “

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى