.

هل بدأت الظروف الاقليمية تتكوّن فعلاً؟

كتب جوني منير في جريدة “الجمهورية”

لا شك في انّ اجتماع الدول الخمس اليوم في العاصمة القطرية يشكل محطة مهمة في مسار حل الازمة الرئاسية اللبنانية، الا انّ هنالك ما يشبه الاجماع بأنّ أوان وَضع الحل النهائي لم يَحن بعد، ربما بسبب الظروف الاقليمية التي لم تكتمل لإحداث الخرق المُنتظَر لبنانياً. صحيح انّ قطر هي صاحبة الدعوة، وهي تتمتع بخبرة لا بأس بها حيال التعقيدات اللبنانية وبكيفية مقاربتها، وصحيح ايضاً انها تتمتع بعلاقة وثيقة مع السعودية وفي الوقت نفسه بعلاقة جيدة مع ايران، ولا بد ان تكون قد قامت بالاتصالات المطلوبة سعودياً وايرانياً قبل توجيه دعواتها، لكنّ المؤشرات لا توحي بأنّ الوقت قد حان لإنجاز التسوية. لكن في الوقت نفسه ثمّة جديد دفعَ بقطر للدعوة الى الاجتماع. هو جديد إقليمي سنتطرّق إليه في سياق التحليل، وجديد لبناني يدفع بها للبدء بتعبيد الطريق امام رؤيتها للحل الرئاسي والخيار الذي تطرحه، والذي بات معروفاً لدى الجميع.

وإذا كان التصوّر الفرنسي السابق مختلفاً عن القطري، فإنّ المقاربة اختلفت الآن، والجولة الاستكشافية الاولى التي قام بها جان ايف لو دريان أظهَرت له عمق الازمة وحِدّة الانقسام. وبالتالي، ضرورة البحث عن افكار جديدة لإحداث الخرق المطلوب. لودريان، الذي من المفترض ان يشارك في الاجتماع الخماسي اليوم كممثّل لبلده، سيعود الى باريس لإطلاع الرئيس الفرنسي عن كامل مهمته، قبل ان يطير الى بيروت ليبدأ جولته الثانية. وحصيلة أجواء لودريان يمكن استنتاجها من كلام السفيرة الفرنسية الحاد في احتفال العيد الوطني الفرنسي. المنطق يقول إنه لا بد ان تكون آن غريو قد تشاوَرت مسبقاً مع الموفد الرئاسي الفرنسي الى لبنان قبل ان تكتب خطابها الاخير كسفيرة لفرنسا مُعتمدة في بيروت.

وبَدا من التردد الذي طَبعَ خطوات لودريان بعد انتهاء جولته الاستكشافية، انه يخشى فشلاً فرنسياً جديداً. ولا بد ان يكون الرئيس الفرنسي قد حذّر موفده من هذا المصير مرة جديدة. وقد لا يكون لودريان قد تأخّر في اكتشاف فقدان باريس لأوراق الضغط اللبنانية، ما يجعل مهمته من دون أنياب. وهو ما يمكن قراءته ايضا بين سطور خطاب غريو. فصحيح انّ باريس وحدها تمتلك قنوات تواصل ممتازة مع «حزب الله»، لكنّ المَونة الخارجية لدى الشيعة هي ايران. والمرجعية الاقليمية للسنة هي السعودية. أما التأثير الفرنسي على المسيحيين فيبدو انه تراجعَ كثيرا مع تَبدّل مزاجهم، وهو ما أظهرته التطورات الاخيرة.

ما يعني انّ مصلحة لودريان الاستعانة بالدور القطري، طالما انّ السعودية سَلّمت به ايضاً. ولأنّ التصور القطري بات معروفاً، شَنّ النائب جبران باسيل هجمات مباشرة وغير مباشرة باتجاه قائد الجيش. وما زاد من توتره، الكلام الجديد الصادر من الرئيس نبيه بري باتجاه العماد جوزف عون. وهو ما دفعَ به للرجوع خطوات الى الوراء، واعادة إحياء تواصله واجتماعاته مع «حزب الله، متخلياً عن شرطه المسبق الذي لطالما تمسك به، وآملاً في الوقت نفسه بإقناع «حزب الله» بالذهاب الى اسم آخر. لكنّ الحزب، الذي لا بد ان يكون قد استَخلصَ الدروس المطلوبة مما حصل، قد يكون وجدَ فائدة مُلحّة من اعادة وصل ما انقطع في هذه المرحلة مع باسيل، على رغم انه مستمر بتمسّكه بفرنجية وفي الوقت نفسه يدرك ضمناً انّ التسوية الاقليمية والدولية تحمل اسم العماد جوزف عون. فالاول أي فرنجية يثق به، والثاني أي العماد عون لديه معه تجربة 6 سنوات صعبة جرى اختباره فيها. ما يعني ان لا مكان للمجازفة من خلال اسم جديد سيكون سلوكه مجهولاً. واستِتباعاً، فإنّ على باسيل ان يُفاضِل لاحقاً ما بين فرنجية او عون وفق حسابات دقيقة ومتأنية.

لذلك قد تكون قطر قد أدركت انّ التعقيدات اللبنانية الداخلية ما تزال كبيرة، لكن لا بد من البدء بدفع الامور قدماً، والأهَمّ انه لا بد ان تكون ثمة محفّزات اقليمية جعلت قطر تسعى للمباشرة بترتيب المسرح اللبناني، وهنا بيت القصيد. وخلال الاسابيع الماضية جرت أحداث عدة على المستوى الاميركي – الايراني لكنها بقيت متضاربة ومبهمة وغير مفهومة. فلقد ظهرت إشارات متعددة حول إنهاء مهمة روبرت مالي المتعلقة بالمفاوضات حول الملف النووي الايراني. وباتَ مالي متغيباً عن عمله منذ 29 حزيران الماضي بذريعة انه في إجازة. وحُكي عن وجود تحقيق امني أدى الى وقف اطلاع مالي على البيانات والمعلومات السرية، وان هذا التحقيق تقوم به لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الذي يسيطر عليه الجمهوريون. ومالي كان قد عقد لقاءات سرية مع رئيس البعثة الايرانية في الامم المتحدة سعيد ايرواني، والذي عمل سابقاً في موقع مهم في المجلس الاعلى للامن القومي الايراني.

في المقابل ثمة معلومات حول نية الرئيس الاميركي تعيين اليوت ابرامز عضواً استشارياً في الديبلوماسية العامة، وهو ما سيمنحه دوراً في صياغة السياسة الاميركية تجاه ايران.

وابرامز معروف عنه انحيازه الاعمى لاسرائيل وتشدده، وبأنه أحد صقور المحافظين الجدد الذين خطّطوا لاجتياح العراق ايام الرئيس السابق جورج دابليو بوش. البعض قرأ في هذه الاحداث إقفال ملف التفاوض حول النووي مع ايران نهائياً والاندفاع باتجاه سياسة متشددة مع طهران. لكن ثمة قراءة مختلفة تعززها المعلومات الصادرة عن اجهزة المخابرات الاميركية، فوفقها، إن واشنطن واثقة بأن ايران لن تستمر في تطوير اسلحتها النووية. لكنّ التقييم الاستخباراتي الاميركي يضع علامات استفهام حول قدرات ايران في ساحات المنطقة ووجوب مواجهتها وتحجيمها.

ووفق التحليل المنطقي، من الصعب جداً الاقتناع بأن ايران ستنتهج سلوكاً هادئاً في حال فشل الاتفاق حول برنامجها النووي. ما يعني انّ سلوكها المُنضبِط والحاصل الآن يوحي بأنّ اتفاقاً حصل في الكواليس العمانية وسيبقى في اطاره السري، وهو ما تحدثت عنه صحيفة «هآرتس» الاسرائيلية. فلقد أورَدَ عاموس هرنل، محلّل الشؤون العسكرية، بأنه بدأ تنفيذ اتفاق نووي غير مكتوب بين واشنطن وطهران. ووصف الاتفاق بمجرد تفاهمات ثنائية يقضي بتجميد البرنامج النووي الايراني مقابل الافراج عن أرصدة ايرانية مجمّدة وتبادل اطلاق سجناء ومخطوفين سيستفيد منه بايدن في حملته الانتخابية. وأضافت هآرتس بأنّ الحكومة الاسرائيلية تعهدت بعدم التشويش على التفاهم، وان ادارة بايدن ترفض الاعلان عنه رسمياً حتى لا يثير ردود فعل سلبية لدى الجمهوريين في الكونغرس. وهو ما يعني طَي صفحة الملف النووي، ما سيسمح لواشنطن فتح ملف النفوذ الايراني في الساحات العربية طالما ان طهران رفضت ادراج هذا الملف في المفاوضات. ويصبح عندها تعيين اليوت ابرامز مفهوماً خصوصاً انّّ شد الحبال الذي سيحصل مع نفوذ ايران سيبقى محكوماً بسقفٍ ضامن، ولن يتفلّت من ضوابط التفاهم النووي.

من هنا يصبح مفهوماً التوجّه الاميركي العسكري في شمال سوريا وفي مياه الخليج، والمقصود هنا اعادة «دَوزنَة» حجم النفوذ الايراني وليس شن حروب مفتوحة معه. والفارق شاسع بين المسألتين. ولذلك أرسلت واشنطن طائرات مقاتلة من نوع F-16 الى مضيق هرمز الاستراتيجي للحَد من الحركة البحرية الايرانية. وكذلك الامر مع ارسال تعزيزات عسكرية جوية الى شمال سوريا، في ظل قلق واشنطن من تنامي التنسيق بين ايران وروسيا وسوريا.

ومن هنا ايضا يمكن تفسير الاستراتيجية العسكرية الجديدة لحلف الناتو، والتي تطال الشرق الاوسط، وحيث يجري البحث بفَتح مكتب اقليمي للناتو في الاردن وهو الاول من نوعه في العالم العربي. وايضاً من هنا يمكن تفسير «الدلال» الذي حظي به الرئيس التركي في القمة، ما يوحي بمهام سيقوم بها في سوريا على قاعدة التوازن مع ايران وروسيا والجيش السوري. اردوغان كان قد نالَ التزاماً اميركياً بحصوله على طائرات F-16 ورفع العقوبات المفروضة على قطاع التصنيع العسكري التركي، في وقت كانت روسيا قد باشرت مؤخراً التحليق في اجواء التنف، ما اعتبرته واشنطن تهديداً مباشراً لقواعدها.

من هنا، قد تكون قطر وجدت انّ الظرف الاقليمي يسمح بفتح ملف الرئاسة اللبنانية، والتي لا بد ان تستكمل بتسوية لاحقة بين «حزب الله» والاميركيين ستحمل في طياتها تحديد مدى نفوذ الحزب داخل السلطة اللبنانية.

وبالمناسبة، فإن فتح ملف الترسيم البري بين لبنان واسرائيل يوحي بأن الاجواء الاقليمية باتت تسمح بذلك، ولو ان التوقيت الحاسم بحاجة لبعض التأني.

وفي المحصلة، فإنّ فتح ملف تحديد النفوذ في شمال سوريا يسمح ببدء ولوج حقل الالغام اللبناني، مع وجود ضامِن لن يدفع بالاحتكاكات التي ستحصل الى مرحلة التفجير، والمقصود هنا التفاهم النووي. لكن يبقى انه اذا كان تحديد الاحجام في شمال سوريا قد يحتاج لبعض السخونة، فإنّ الاتفاق على المعادلة اللبنانية للمرحلة المقبلة سيحتاج الى تسوية مع «حزب الله»، وهو ربما ما يعنيه بدء الدخول الاميركي المباشر على الملف اواخر شهر ايلول المقبل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى