.

حدود اللعبة بين حزب الله والجيش والمعارضة

كتبت هيام القصيفي في جريدة “الأخبار”

انتقال ملف الكحالة الى القضاء لا يعفي من تداعياته السياسية. الحوادث المتنقلة ودور حزب الله وتصعيد القوى المعارضة، تضع اللعبة السياسية على خط المواجهة التي كشفت حجم اهتراء لبنان أمنياً

لا تكفي 48 ساعة لإعادة رسم ما حصل في الكحالة. ليس المقصود هنا الوقائع الأمنية التي سبقت الحادثة وتلتها. ثمّة محاولات بدأت ليل الأربعاء، واستكملت أمس، لرسم المشهد السياسي المتعلق بحزب الله والجيش، وبالقوى السياسية التي إمّا نأت بنفسها، أو دخلت على خطّ ما جرى في سعي لتظهير حجم الخصومة لحزب الله والجيش معاً.

يشكل طريق الشام، كما طريق الجنوب، طريقاً حيويّاً لحزب الله. وليس سلوكه نحو سوريا، أو من سوريا الى بيروت، مفاجئاً. لكن، نادراً ما أعطى الحزب، علناً، إطاراً أمنياً للطريق، على غرار ما كان يحصل على طريق الجنوب، إذ كان واضحاً بمنع إقفاله في تظاهرات 17 تشرين أو إثر حادثة خلدة، ولا يزال إلى الآن تحت المعاينة في الناعمة أو خلدة. طريق الشام مختلف بحيثيّاته، وبتقاطعاته من «بيروت الشرقية» الى الجبل الدرزي والبلدات البقاعية السنية والشيعية، من دون إغفال أنه – في الجزء الممتدّ من بيروت الإدارية الى ضهر الوحش – منطقة أمنية عسكرية، تعدّ حديقة خلفية للجيش اللبناني، حيث تنتشر مواقعه ومراكزه ونقاطه العسكرية. مع ذلك، سلوك الحزب الطريق، صعوداً ونزولاً، معروف خلال حرب سوريا وفجر الجرود، وكذلك عمليات نقل عناصره وسلاحه.

بهذا المعنى، يصبح طريق الشام أساسيّاً للحزب، وأي حادثة، على غرار حادثة الكحالة، تعني له الكثير، كما عنت له حادثة شويا وردود الفعل بعدها على الطريق المذكور. ولكن، مع فوارق أساسية، تكمن في استخلاص الحزب والجيش معاً عِبَراً مما حصل.
لا شك في أن الحصيلة الأولية هي أن البلد كشف عن اهترائه في شكل فاضح، لم يكن أيٌّ من المسؤولين راغباً في تصديقه، بخلاف الصورة السياحية التي يراد منها تغطية العجز والانهيار الأمني. ودلّت خطورة ما جرى، في جزء أساسي، على الغياب الفاضح للسلطة السياسية في ظل حكومة تصريف الأعمال. لعبت الصدفة دورها في تزامن الكشف عن حادثة عين إبل مع حادثة الكحالة، لكنّ خلاصتهما واحدة، إذ أثبتتا مرة أخرى، بعد أشهر من المماحكات والتشنّجات، أن النفوس مشحونة سياسياً وطائفياً الى حدّ أوصل الى سقوط قتيلَين من أهل الكحالة ومن حزب الله. ورغم أن الشحن الإعلامي والسياسي ساهم في تكبير صورة الحدث، إلا أن ذلك لا يعني أن ما حصل مجرّد فعل وردة فعل. هناك أبعد من ذلك في السياسة، ويتعدّى تأقلم اللبنانيّين مع حوادث إطلاق النار وسقوط قتلى. ثمّة شعور لدى بعض من رصد الواقعة، من جوانبها المختلفة، بأنّ تفسّخ الساحة اللبنانية لم يعد يحتاج الى بؤر أمنيّة واسعة التفجير. تعدّد حوادث إطلاق النار وسقوط قتلى وعمليات تصفية وخطف كلّها تنذر بأنّ من الممكن خلق ساحة أمنية متوترة من دون حرب كبرى، تعطي النتيجة نفسها في تهيئة مرحلة التفلّت الأمني عبر حوادث متنقلة. في موازاة ذلك، يصبح حزب الله عنصراً أساسياً في الإشارة إليه صراحة، الأمر الذي يجعل من إطلاق النار على عناصره، للمرة الأولى بعد حادثة الطيونة، وبعد توجيه الاتهامات إليه في ذكرى تفجير المرفأ، وكأنه يؤشّر الى أنّ التعرّض له لم يعد من المحرّمات. فما كسر في السياسة تجري محاولة كسره على الأرض. ليست حادثة الكحالة مدبّرة، بحسب وقائعها الأمنية. لكنّ التعامل معها من جانب الحزب ومن جانب خصومه، يربط ما جرى وما سبقه وكأنه إيذان بمرحلة جديدة من التقاطعات الإقليمية، وهو أمر لا بدّ أن يجد ترجمته في الواقع المحلي. ما يجري على خطّ السعودية وإيران وواشنطن لم يمرّ بالكحالة، لكنّه يغطي حوادث متنقلة ويعطي هامشاً لردود الفعل.

كل ذلك يقود الى أن إحدى خلاصات ما جرى تكمن في كيفية تعاطي القوى السياسية التي تقف موقفاً واضحاً ضد الحزب، مع المواجهة السياسية من الآن وصاعداً، في شكل مختلف، والأهم في التعامل مع أيّ حادث أمني في إطار توقّعات قد تكون خطرة.
مراقبة أمنية للحادثة تطرح أسئلة عن ثُغَر أمنية حصلت منذ أن وقعت الشاحنة وحتى انفجار الوضع. لا ينسّق حزب الله مع الجيش أو القوى الأمنية في تنقلاته المتعلقة بنقل السلاح، لكن عادة يجري التواصل لدى وقوع حوادث أمنية. تأخّر التواصل، ساهم في إذكاء التوتر لساعات. لكن مقارنة ما حصل في شويا يطرح أسئلة عن إرباك حصل في التعاطي مع الحادث من جانب عناصر الحزب، لأنّ الحادث وقع في منطقة «مقفلة» جغرافياً، ولو على طريق دولية، وفي بيئة «معادية» للحزب، وهذه عناصر تساهم في الإرباك. في المقابل، لم يكن التشنّج أحادياً. فمحاولة التعرّض للشاحنة قبل حضور الجيش وبعده ضاعفت من التوتّر، علماً أن تبرير الحزب هو أن الشاحنة تمرّ في طريق دولية، وبقرار مغطّى من الحكومة في إطار «عمل المقاومة»، ولم تكن تمرّ في شوارع البلدة.

كل ذلك يبقى في إطار التحقيق القضائي. لكنّ الخلفيات السياسية في مكان آخر، فالحصيلة الأولى لما جرى أصابت الجيش في العمق. جواب الجيش أنه فور تبلّغه بالحادثة، عمد الى الحضور بكثافة: أوّلاً عبر مديرية المخابرات، وثانياً عبر قطع عملانيّة، وبتوجيهات محدّدة بضرورة ضبط الوضع الأمني والعمل على التهدئة ومنع تدهور الوضع. كل ذلك تمّ في إطار جوٍّ من الاتصالات السياسية عبر قيادة الجيش ومديرية المخابرات مع القوى السياسية كافةً لضبط الوضع.
لكن ذلك لم يمنع تعاطي قوى سياسية مع أداء الجيش على أنه فئوي منحاز الى حزب الله، والمستفيدان اثنان من ذلك: التيار الوطني الحر ومعارضو حزب الله الذين كانوا الى الأمس يتعاطون مع ترشيح قائد الجيش على أنه ثابت كمرشح تسوية، في رفع سقف التصويب عليه، واعتبار أنه منذ سنوات لم يقترف مثل هذا الخطأ في تغطية حزب الله.

الحصيلة الثانية، هي أن القوى المعارضة وجدت نفسها مرة أخرى في مقدّم المشهد، ولكن من دون برنامج عمل سياسي. بدا واضحاً أن قوى أساسية في المعارضة خفّفت من الضغط السياسي لمصلحة تهدئة واضحة في الاتصالات التي جرت معها. وعلى عكس ما أشار إليه بيان الحزب من إطلاق ميليشيات النار على عناصره، لم تكن التغطية لما جرى حزبية بالمطلق. ومن قاد الاتصالات يعرف أن رفع منسوب التحذير من الميليشيات سياسي بحت، ويهدف الى رفع مستوى المواجهة السياسية ليس إلا. والمعارضة بذلك تجد نفسها أمام مجموعة أحداث متنقّلة، لكنها تصوّب على المرحلة السياسية المقبلة، فلا تستنفد مواجهتها مبكراً.
في موازاة ذلك، سيكون حزب الله أمام مرحلة قياس نوعية المخاطر التي استجدّت على أكثر من خط. الأكيد أن مراجعة أمنية ستكون على الطاولة لأن أيّ حدث مماثل ولو كانت نسبته واحداً في المئة، كحادثة الكحالة، من دون إطار محكم أمني، سيضاعف من مخاطر المواجهة مع خصومه، والطريق الى سوريا والبقاع طويلة، ويمكن أن يستفيد منها أيّ طرف في أيّ منطقة أخرى. لكنّ الأهمّ بالنسبة إليه يكمن في مكان آخر: كيف تحوّلت ردّة الفعل عليه حتى من حلفائه سياسياً وأمنياً إلى ورقةِ مواجهةٍ مكشوفة؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى