.

تحليل مشهدي.. "النوعية" تقاس بالأخلاق والوطنية

علي عبادي
 
تأمَّل أكثرُنا فيديوهات تتعلق بحادثة الكحالة الأليمة. لكن تحليلاً مقرَّباً للفيديوهات، خاصة في لحظة الإشتباك يقودنا الى ملاحظة لقطتين هامتين:
 
الأولى: هي لحظة هجوم بعض من أهالي الكحالة بتحريض من محطة “المُر” التلفزيونية على شاحنة الذخائر التي انقلبت على أوتوستراد دولي (وليس في حي داخلي). في هذه اللحظات، يبدو فيها المهاجمون وقد حاولوا السيطرة على الشاحنة، وهو تصرف ينطوي على خطورة بالغة، لأن فتح الصناديق والتعامل بمحتوياتها يحتاج الى خبرة لا تتوفر لكل شخص. بينما تصرفَ أفراد حماية الشاحنة على قلّتهم بالكثير من الحذر، فلم يفتحوا النار على الجمع الذي هاجمهم بالحجارة التي قد تؤدي الى جروح بالغة أو قاتلة، وانما أطلقوا النار في الهواء لإبعاد المهاجمين، ولم تسجَّل أي إصابة في صفوف هؤلاء. وهذه إشارة الى قدرة أفراد الحماية على الإحتفاظ بأعصابهم حتى في ظل تعرضهم للخطر وتعرض الشحنة التي يرافقونها لخطر أكيد. فالغاية هي إبعاد الجمع وليس الإضرار بهم.
 
اللقطة الثانية: هي لحظة الإشتباك بالنار، عندما أطلق مسلح الرصاص على أحد أفراد الحماية (الشهيد أحمد القصاص) وأصابه في مقتل. ردة فعل رفاقه بالقرب منه كانت إطلاق النار على المهاجم حصراً وإصابته وتحييده، ولم يتعرضوا لأشخاص آخرين كانوا بالقرب منه. هذه اللحظات قد تكون أكثر حراجة من المشهد الأول، فأي عسكري يرى رفيقه وقد قُتل أمامه قد يفقد أعصابه والقدرة على الإنضباط: إما أنه سيتراجع ويختبئ ليحمي نفسه على الأقل، أو أنه سيبدأ إطلاق النار على كل من يتحرك أمامه في محيط أصبح بالنسبة له “معادياً”. لكن رفاق أحمد لم يفعلوا هذا ولا ذاك: ثبتوا في مكانهم في مواجهة مطلق (أو مطلقي النار بالنظر الى احتمال وجود آخرين غابوا عن إطار الفيديو) وأخذوا وضعية القتال وقوفاً مع الإستمرار في التحرك لتجنب الرصاص وردّوا على مصدر النار، وفي الوقت نفسه لم يقوموا بأي رد فعل عشوائي. وهذا يسجَّل لهم ويؤشر الى أنهم مقاتلون محترفون ومدرَّبون على مواجهة مثل هذا الموقف بحكم وظيفتهم في المواكبة والحماية، وأيضاً ملتزمون بالضوابط القتالية في أصعب الظروف التي يسودها الإحتقان والهيجان والإضطراب، فضلاً عن تمتعهم بلياقات أخلاقية يحتاجها كل من يحمل السلاح. ونعرف من تجارب كثير من العسكريين في جيوش متقدمة أنهم يصابون بالصدمة عند مقتل رفاق لهم وقد يلجأون الى ارتكاب عمليات قتل عشوائية في لحظة ارتباك وفقدان السيطرة على أنفسهم.
 
نحمد الله أن حادثة الكحالة إنتهت بأقل الخسائر البشرية، فكل تفصيل فيها كان يحتمل إنجراف الوضع الى ما هو أسوأ. وبرغم كل عمليات التنظير من هنا وهناك ومحاولة إلقاء اللوم على أفراد حماية الشاحنة، تقدمُ المقاومة نموذجاً أخلاقياً في القتال يعجز آخرون عن تقديمه في ظروف مماثلة. أتخيل لو ان أحد الأحزاب التي تلوم حزب الله اليوم هي من كان في موقف ميداني مماثل كيف كانت لتتصرف، هل كان سينتهي الأمر معها بدون مذبحة؟ وقد خبرنا من تجاربهم الكثير عند حاجز الكحالة عام 1970 وفي بوسطة عين الرمانة عام 1975 ومذبحة “السبت الأسود” بحق الشغّيلة المياومين في مرفأ بيروت عام 1975، وكلها ارتُكبت بدون حصول أقل مواجهة مع الضحايا. فقط للتذكير والإعتبار.

ظُلمت المقاومة القوية والمقتدرة واعتُدي عليها في واقعة الكحالة، لكنها مارست الرد بحدّه الأدنى عسكرياً، وأيضاً سياسياً وإعلامياً ضمن وقفة تمزج الشجاعة بالحكمة، بينما اتجه الفريق الآخر الى رفع عقيرته والتحريض والتهديد بإشعال حرب لا تُبقي ولا تذر. وهذا بحدّ ذاته يؤشر الى الفارق الكبير بين منطقَين وموقفَين ونمطَين من السلوك. عسى أن يدرك المعتدون أن “النوعية” تقاس بالسلوك الأخلاقي والوطني وليس بالجعجعة الكلامية والحضّ على الإقتتال الداخلي الذي لن ينجو منه أحد.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى