.

كوع الكحّالة يُحرج “التيّار” ويُغرق عون؟

كتب وليد شقير في “أساس ميديا”

كثيرة هي الحوادث الأمنيّة التي لها دلالات مهمّة أبعد من كونها مجرّد حوادث “بنت ساعتها” في لبنان هذه الأيام. لكنّ دلالات حادثة كوع الكحّالة وشاحنة الأسلحة تطغى على غيرها، من دون التقليل من أهميّة الحوادث الأخرى (عين الحلوة، مقتل الياس الحصروني، الاشتباكات المتنقّلة في مناطق وجود “الحزب”…) وتلك التي ستحصل في البلد. ومن الكحّالة تفرّعت “أكواع” سياسية كثيرة على الطريق التي يسلكها لبنان. وعلى كلّ منها يرصد فريق محلّي وخارجي ما هو آتٍ.
لا حاجة إلى تكرار ما قاله البعض على الشاشات من أنّ نقل “الحزب” السلاح من البقاع إلى بيروت وأيّ مكان آخر ليس الأوّل ولا الأخير، إلا أنّ المعروف أنّ لدى “الحزب” طرقات أخرى لنقل الذخائر أو مكوّنات الصواريخ أو غيرها، من البقاع إلى الجنوب، شمال الليطاني أو جنوبه، حسبما يزعم خبراء عسكريون. هي طرقات بعضها جرى شقّه خصّيصاً لتسهيل حركة “المقاومة”، وليست مأهولة كما هي الحال مع المناطق ذات الكثافة السكانية التي يعبرها طريق ضهر البيدر – عاليه – الكحّالة… وصولاً إلى ضاحية العاصمة. فلماذا سلوك طرقات أكثر انكشافاً؟

السؤال الثالث عن مسار الشاحنة

إن كان المأخذ الأوّل على انتقال شاحنة الأربعاء الماضي يكمن في السؤال: “لماذا إلى بيروت البعيدة عن الاحتلال، وليس إلى جبهة الجنوب؟”، فإنّ استخدام آلية مخصّصة للنقل العامّ وللإيجار (نمرة حمراء) يستدعي السؤال الثالث الذي يُبرز مخاطر ذلك المسار الذي سلكته: لماذا احتاج الأمر إلى المخاطرة بنقل ذخيرة عبر طريق مأهولة إلى هذا التمويه لأسباب تتعلّق بإمكان استهداف الشاحنة من قبل إسرائيل؟ منشأ السؤال هو أنّ اللغة التصعيدية التي شهدتها جبهة الجنوب خلال الأسابيع القليلة الماضية بسبب خيمة “الحزب” في منطقة مزارع شبعا وخرق إسرائيل للخط الأزرق…، شملت، من الجانب الإسرائيلي، تسريبات في معرض التحذيرات والتهديدات المتبادلة مع “المقاومة” بأنّ على الجيش الإسرائيلي أن يعتمد ضربات لمواقع وأسلحة “الحزب” ومخازنه في لبنان، شبيهة بالضربات الدقيقة التي تنفّذها الدولة العبرية في سوريا في شكل شبه يومي للمخازن والمواقع الإيرانية في سوريا منذ سنوات، والتي تعتمد على معلومات استخبارية موثوقة. فهل “الحزب” أراد الاحتياط حيال احتمالات من هذا النوع فاعتمد طريق ضهر البيدر – الكحّالة، بشاحنة مدنية من النوع الذي تُنقل فيه الخضار من البقاع أو عكار إلى الساحل، وتمرّ في مناطق سكنية تجعل استهدافها مدعاة للتردّد من قبل العدوّ؟ قد يكون هذا السؤال الذي طرحه بعض المراقبين عن كثب لتصاعد المواقف الإسرائيلية وصولاً إلى تهديد وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت قبل 3 أيام بأنّه سيعيد لبنان “إلى العصر الحجري إذا أخطأ الحزب على الحدود”. والتسريبات عن البحث في توجيه ضربات دقيقة شبيهة بالتي تنفّذها إسرائيل في سوريا (كُتبت عنها مقالات في الصحافة الإسرائيلية)، شملت مناقشة احتمال قيام الحزب بردّة فعل، وهو ما يقود إلى حرب يجب التهيّؤ لها على الرغم من القناعة العامّة بأن لا إسرائيل ولا إيران يريدانها.

هذه الأسئلة وغيرها ممّن يزعمون الاطّلاع على معطيات تتعلّق بالجانب اللوجستي لعمل المقاومة، قد لا تجد أجوبة فعليّة عليها، على الأقلّ في وسائل الإعلام. لكنّ الأسئلة الأخرى ذات الطابع السياسي كرّت كحبّات السبحة بعد تفاعلات حادث كوع الكحّالة، وكذلك الأجوبة عليها. فهو ترك انعكاسات متعدّدة على المشهد السياسي المعقّد والمأزوم في البلد.

الانعكاسات السياسيّة الداخليّة: إحراج “التيّار”

– أحرج مقتل فادي بجّاني “التيار الوطني الحرّ” في وقت يحاول رئيسه النائب جبران باسيل استعادة حرارة العلاقة مع “الحزب” في الحوار المستجدّ منذ أسابيع، بعد الخلاف حول ترشيحه سليمان فرنجية. الحادثة وقعت على الكوع الذي يتمتّع برمزية مسيحية في تاريخ الصدامات الأمنيّة في البلد، بعد ساعات من تسليم باسيل الورقة المكتوبة التي طلبها منه “الحزب” للمطالب التي يطمح إليها مقابل قبوله بخيار “الحزب” لاسم الرئيس المقبل، سواء كان فرنجية أو مرشّحاً آخر. وخلافاً لتركيز “الحزب” حملته الإعلامية ضدّ حزبَي “القوات اللبنانية” و”الكتائب” بأنّهما يحرّضان تحت عنوان اتّهام “عملاء إسرائيل السابقين” بأنّهم “الميليشيات” التي تسبّبت بإطلاق النار بعد انقلاب الشاحنة، تبيّن أنّ الضحيّة بجّاني الذي يتّهمه إعلام “الممانعة” بالمبادرة إلى إطلاق النار على حرّاس الشاحنة، ينتمي إلى التيّار العوني، وهو متحدّر من “حزب الوعد” الذي كان أسّسه الراحل إيلي حبيقة، والذي كانت علاقته مع “الممانعة” غير عدائية… حاول “التيار” استدراك الأضرار التي أصابته ممّا حصل بإرسال القياديَّين ناجي حايك والنائب سيزار أبي خليل، فيما رأت أوساط سياسية في تصريحات الرئيس ميشال عون وباسيل محاولة لإعانة “الحزب” على استيعاب تصاعد النقمة المسيحية، وهو ما يضعه مرّة أخرى أمام امتحان صعب لاستعادة ما فقده من شعبيّته بسبب التحاقه الكامل في السنوات الأخيرة بسياسات “الحزب” داخلياً وإقليمياً، الأمر الذي تسبّب بانهيار البلد الاقتصادي.

إغراق جوزف عون

– اضطرار الجيش إلى الحؤول دون تفاقم الوضع الأمني وضعه في مواجهة أهالي البلدة عند قطعهم الطريق، فانهالت عليه المطالبات بتوقيف مسلّحي “الحزب” وبالكشف عن محتويات الشاحنة، فاضطرّ إلى إصدار بيان أقرّ بوجود ذخيرة في الشاحنة. لكنّ بعض الأوساط رأت أنّ لسلوك الجيش وجهين، حفظ السلم الأهليّ ومنع الانجرار إلى تمادي المسلّحين، من جهة، ومراعاة مطالب الحزب، الذي انتشر عناصره على الدرّاجات النارية على الطريق العامّ، باسترداد محتويات الشاحنة. وفي اعتقاد بعض الأوساط أنّ المراقبة المحلّية والخارجية لمجريات ليل الشاحنة الطويل أظهرت أنّ قائد الجيش العماد جوزف عون “سلّف” الحزب موقفاً في إطار السباق نحو رئاسة الجمهورية، لكنّه في المقابل أدّى إلى مزيد من علامات الاستفهام التي تطرحها دول عدّة حول وضع الجيش وانصياعه لـ”الحزب” في الممارسات اليومية والتنسيق الأمني، في شكل مخالف لمبدأ سيادة السلطة الشرعية وقواها الأمنيّة على حساب القوّة المسلّحة غير الشرعية. وهي علامات استفهام أخذت تطرحها ضمناً دول عربية وغربية خلافاً لما يروَّج عن تحبيذها قائد الجيش للرئاسة.
يمكن الحديث عن الكثير من الانعكاسات الداخلية لحادثة كوع الكحّالة، سواء لأنّها توسّع قاعدة الاحتقان الشعبي من ممارسات الحزب، أو لأنّها تكرّس مرّة أخرى عدم اكتراث “الحزب” بالاعتراضات على إلحاقه لبنان عبر سلاحه بمقتضيات المواجهة المتصاعدة، التي تخوضها طهران مع الولايات المتحدة الأميركية. والذين التقوا قياديين في “الحزب” عقب الحادثة لمسوا أنّه مطمئنّ إلى قدرته على لفلفة تفاعلاتها، وأنّه مهما اشتدّت الحملة، التي حصرها بحزبَيْ “القوات” و”الكتائب”، على سلاحه فإنّ ذلك لن يغيّر شيئاً على الأرض، وسيقتصر الأمر على تصريحات وبيانات لا مفعول لها لبضعة أيام، ثمّ يحصل حدثٌ ما يطغى على كوع الكحّالة.

الأبعاد الخارجيّة: مناقشات مجلس الأمن

لكنّ للحادثة انعكاسات وأبعاداً خارجية لا يمكن تفاديها بعد الضجّة التي أثارتها، وما أطلقته من مخاوف، ولو بقيت في الإطار الإعلامي، على السلم الأهليّ وتصاعد الحساسية المسيحية الشيعية، على الرغم من أن لا قدرة عند أيّ فريق لتحمّل أثمان الصدام الأهليّ.
– لبنان أمام استحقاق اجتماع مجلس الأمن بعد أسبوعين للتجديد لقوات الأمم المتحدة في جنوب لبنان (اليونيفيل) في إطار تنفيذ القرار الدولي 1701، فيما تحاول دبلوماسيّته تعديل الفقرة 16 التي وردت في قرار التجديد عام 2022، والتي تنصّ على أنّ هذه القوات “لا تحتاج إلى ترخيص أو إذن مسبق للاضطلاع بالمهامّ الموكلة إليها ومأذون لها بالاضطلاع بعمليّاتها بصورة مستقلّة”… وهي فقرة أُضيفت ردّاً على المضايقات التي يتولّاها مناصرو “الحزب” ضدّ دوريات “اليونيفيل” حين تبحث عن مستودعات أسلحة يحظرها القرار الدولي جنوب الليطاني. فالمناقشات التمهيدية لتقرير الأمين العامّ للأمم المتحدة التي جرت في نيويورك في 17 تموز الماضي أثارت خلالها دول عدّة هذا الموضوع في سياق مناقشات الانتهاكات من جانب إسرائيل ومن الجهة اللبنانية للقرار الدولي. دقّقت الدول الأعضاء في مجلس الأمن في ما سمّته الدبلوماسية الأميركية (والإسرائيلية) “استفزازات الحزب” الحدودية “المقصودة عن عمد”، باعتبارها “تصعيداً من قبله في الآونة الأخيرة وليست ردّاً على الانتهاكات الإسرائيلية”. كما أنّ بعض الدول سألت عمّا تضمّنه تقرير الأمين العامّ حول استمرار الحزب بالاحتفاظ بأسلحة يحظرها الـ1701 في منطقة عمليات القوات الدولية… وعن العوائق الموضوعة أمام “اليونيفيل” بحثاً عن هذه الأسلحة خارج سلاح السلطة الشرعية، وعن انتهاكات من نوع إقامة أبراج مراقبة وتثبيت حاويات على الحدود منذ سنوات لم يُسمح لليونيفيل بتفتيشها إذا كانت تحوي أسلحة. في اختصار قد لا تسعف حادثة الكحّالة لبنان في سعيه إلى تعديل الفقرة المقصودة على الرغم من أنّ الدبلوماسية الروسيّة ستتضامن مع طلبه.

الحدود البرّية

– يبقى السؤال عمّا إذا كان طلب لبنان “إظهار الحدود البرّية” (جرى استبدال تعبير ترسيم الحدود) سيلقى تجاوباً إسرائيلياً واستعداداً أميركياً للتوسّط في هذا المجال. فهل يلجأ الحزب إلى تغطية اتفاق برّي شبيه بالغطاء الذي أمّنه للترسيم البحري، على أمل أن يحصل في المقابل على غضّ نظر خارجي عن سياسة “وضع اليد” التي يمارسها في الداخل؟
الأجوبة عن مآل التطوّرات اللبنانية تنتظر أيام قليلة، مع بدء تنفيذ تدريجي لاتفاق واشنطن وطهران بوساطة عُمانية وقطرية لتبادل أسرى والإفراج عن 6 مليارات دولار من أرصدة طهران في كوريا الجنوبية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى