.

أن تقرأ راني

هادي قبيسي

يمكنك أن تقرأ عن إنسان فتتعلم وتتنبه، ويمكنك أن تقرأ فتسأل وتتبحر، وأحياناً تقرأ لتنتقد وتستكشف الخلل والنقص، ولكنك أحياناً تقرأ فتشتعل وتتطهر. بعض السير هي كتلة من لهيب، إنها ليست نصاً، بل شعلة.

قد لا تصل من خلف هذه القراءة إلى معرفة محددة واضحة، إلى تشخيص لهذه التجربة بشكل مفهوم. إنها شخصية تتجاوز هذا الميدان، إنه يقفز إلى أعصابك وقلبك وروحك مباشرةً، لا يستأذن عقلك ولغتك ومفاهيمك، إنه مصمم كي يتجاوز كل ذلك.

راني هو توهج ولهيب، إنه ليس مجرد ضوء يشرق، إنه يحترق ثم ينفجر، ربما لم يسمع كثيرون بصدى انفجاره، لكنه قابل للمشاهدة إذا عرجت على سيرته، إنه انفجار معنوي هائل، لا تسمعه الآذان، بل إنه يترك أثراً ارتجاجياً في القلب.

تجربة تحمل مواصفات درامية فائقة، من عائلة غنية مهاجرة خارج البلاد المحتلة، ثقافة متنوعة منفتحة وغير ملتزمة بفكرة المقاومة، لكنه عرج على حسينية من هنا، وتعرف على شاب مثقف ملتزم هناك، وتشرب بعض الجرعات الروحية في مصلى هنا وهناك. إن اللهيب الذي في داخله كان يحتاج إلى بضع شرارات، والباقي تتكفل به تلك الطاقة الروحية الكامنة.

يلتحق أخيراً بالطريق الذي سيجعلنا نسمع باسمه ونتقصى خطواته ونسير في وديانه، إنه الطريق الذي أخذه إليه مجاهد آخر، ملتهب كما هو، سيفتح له الباب، سيضع الصاعق على عبوة قلبه، سيتناثر كل شيء حوله، إلا معناه، سيتجرد من كل المظاهر، إنه الآن في الطريق، يتحضر للغروب الأخير.

سيعبر من المدرسة والتعليم إلى العمل السري المقاوم في الجنوب، ومنها إلى السجن، وبعدها إلى التحرير ومنه إلى العمل الإبداعي في الصناعات العسكرية، حتى تحط به القافلة في الغندورية، عند براق عروجه. إنها الطريق المختلفة الاتجاهات المتنوعة العراقيل والعقبات والشواهق، ولكنها تسير به باتجاه واحد. إن كل ما عرفناه عنه هو نتف صغيرة من الكتلة الانفجارية في قلبه.

الحماسة والاندفاع أسلوبه في كسر الحواجز. ليس لديه أسلوب التسلسل والتدرج. إنه يقتحم فقط، نعم يستطيع أن يتسلل داخل بنت جبيل ويزرع العبوات للعملاء في داخل البلدة، وهو يتجول بسيارة عقل هاشم، الذي اعتبره ابنه المدلل، وكان يحمل مسدسه كذلك. إنه يستطيع أن ينسل هنا، لأن هذا اقتحام كذلك، إنه يقتحم بيت رأس العمالة.
ربما يتميز الصوفي الشريد باللطف والبعد عن الناس والعزلة. إنه يحب الأنس بخالقه، لكن هذا الشريد كان يمكث في الليل متعبداً حتى الصباح، وفي الصباح يبحث عن لجة جديدة، فقد كان في الليل يتجاوز الحجب ويقتحم السدف، وفي النهار كذلك هو يكسر هيبة الظلم يهشم وجهه ويحطم أسنانه.

فعله القتالي هو لمسة رحمانية. إن ما بينه وبين البندقية كالذي بينه وبين الوردة، وإنما البندقية كالمعول الذي يزيح الأشواك والنباتات السامة من حول الورود. هو يتفتح فيه العطر من حيث يتفتح فيه الجرح. هو خليط بين اللطف والشدة، اللطف بحدوده القصوى، والشدة بحدودها القصوى، وبهذين القطبين لا بد من أن يكون الناتج انفجاراً.
راني ليس حالة للقراءة، لا تستطيع استجماعه حتى في مخيلتك ولو قرأت كل خطواته، إنه تشكل كأسلوب عصي على الإحاطة، هو يشبه في غليان عواطفه المتناقضة، خلاصة الحياة البسيطة للقرى، لكنها مشذبة ومهذبة حتى تصبح كحد السكين، ليست مؤهلة للمقارنة مع الحياة العادية، ليست متناسبة مع حياتنا اليومية.

قراءة نص لشخصية مثل راني، تمثل صفحة وجودية جديدة، كأنه رمى بكتلة لهب، من عالم غيبه، في قلبك، بركان غائر في عالم آخر، هو يقذف حمماً بين يدي القارئ، يتوهج ويشرق ويبتسم، إنه وجه مسلط على العالم الآخر، لم يكن ينظر إلى الخلف، هو مرآة في اتجاه واحد، يمكنك من خلاله أن ترى العالم الثاني، أما هنا، فقد بقيت منه حروف، وحسرات في قلوب رفاقه.

عن راني بزي، استشهد في آخر أيام حرب تموز، في مواجهة الغندورية.
القراءة في كتاب: طوّاف الليل، نشرته جمعية إحياء التراث المقاوم

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى