.

من قائد فاغنر إلى غاز الناقورة: من قتل رئيس توتال؟

كتب جان عزيز في “أساس ميديا”

مات قائد فاغنر.
ليست الحادثة المأساوية الأولى التي تشهدها طائرةٌ تُقلّ شخصية رفيعة في روسيا.
كأنّ سماء تلك البلاد ومطاراتها مسكونة بلعنة. أو هي نعمة.
قبل أعوام قُتل شخص آخر بتحطّم طائرته هناك. شخصٌ مرتبط بلبنان بشكل ما. لا بل مرتبط هو بجنوب لبنان تحديداً. وبالبلوك رقم 9 بشكل أخصّ. مرتبط هو بكلّ أحلام الغاز الوردية وكرنفالات لبنان بلداً نفطياً، التي أطلقتها قبل أيام رحلة جوّية أخرى. لكنّها مروحيّة ومحروسة، من بيروت إلى الناقورة. والحمد لله. غاز لبنان وألغاز الموت على ضفاف الغاز، مسألة تستحقّ العرض في ثلاثة مشاهد.

*********************************

مشهدٌ أوّل: كردستان العراق بين عامَي 2019 و2022
ذات يوم من تموز 2019 أعلنت شركة تنقيب عن الغاز والنفط، اكتشافها حقل غاز في كردستان العراقية. كان الإعلان نوعاً من احتفال. لم يُخفِ الآمال والطموحات إلى أنّ الحقل المكتشف “قد يكون الأكبر في العراق”، أي أضعاف كلّ أحلام لبنان للقياس فقط.
بدأ البحث في آليّة الاستخراج المعقّدة والطويلة: التطوير والتنقيب وصولاً إلى مدّ الأنابيب والتصدير.
قيل إنّ العائلة الحاكمة في إربيل، شركة آل بارزاني للغاز والثورة، منحت حقوق الحقل لعناية شركة من باطنهم، اسمها “مجموعة كار”.
بدأ العمل سريعاً. سعياً طبعاً إلى تنمية شاملة ومتوازنة ولخير الإنسان الكردستاني… حتى آخر السرديّة المعمّمة.
فجأة، ذات يوم من آذار 2022، سقط 12 صاروخاً باليستياً دفعة واحدة. انطلقت من إيران. ودمّرت مسكناً كبيراً على تلّة في كردستان العراقية.

خرج إعلام طهران فوراً بإعلان رسمي يتبنّى الغارة. ويؤكّد أنّها استهدفت “وكراً من أوكار التجسّس الصهيوني” على بلاد الثورة الإنسانية العصرية الحديثة والفريدة في عالمنا اليوم.
فجأة تبيّن أنّ المنزل المستهدَف هو مسكن رجل اسمه الشيخ باز كريم. وهو للمصادفة رئيس ومدير “مجموعة كار” الغازية النفطية.
بعد أيام أدلى الرجل بتصريح مقتضب. مفاده أن لا علاقة له بكلّ ما يُحكى عن مشاريع لاستخراج الغاز من كردستان. ولا بنقله عبر أنابيب إلى أيّ مكان.
وصلت الرسالة: إن لم يكن نظام الملالي قادراً على تصدير غازه وكسب دولاراته، فلن يكون لأيّ من مزارع أذرعه الحقّ في ذلك.
انتهى المشهد الأوّل.

مشهدٌ ثانٍ بين طهران وموسكو وباريس بين عامَي 2006 و2014
كانت شركة توتال الفرنسية تعمل أيضاً على التنقيب في المنطقة الكردستانية. مطلع 2014 اكتشفت حقل جيسيك.
علاقة توتال وطهران مميّزة منذ زمن بعيد.
سنة 2006 أُحيلت الشركة أمام المحاكم الفرنسية بشبهة ملفّات فساد بين بغداد وطهران. كان ثمّة مسؤول عن عملها في هذا القطاع وفي المنطقة، اسمه كريستوف دو مارجوري. اسمٌ علمٌ تعرفه كلّ فرنسا وعالم النفط والعالم. كان منذ 1995 ركناً توتاليّاً بامتياز، غارقاً حتى شاربيه الكبيرين الشهيرين، في كلّ غاز الشرق الأوسط ونفطه وأنظمته الديمقراطية الخاصّة جدّاً. قبل أن يصبح سنة 2007 الرئيس الأوّل لشركة توتال في العالم.
أكثر من مرّة أُثيرت ملفّات توتال قضائياً. ودائماً بسبب شبهات فساد ومخالفة قوانين دولية وأنظمة عالمية. خصوصاً في نقاط محظورة. مثل التجارة والتبادل والصفقات مع طهران. ثمّ مع روسيا بوتين.
بسرعة طوّر كريستوف علاقاته مع موسكو. صار صديق بوتين المقرّب. وبالتالي صارت النومانكلاتورا* الموسكوبية كلّها بخدمته.
كبرت علامات الاستفهام حول نشاطه ونشاط شركته. من مساعدة طهران على التفلّت من العقوبات الدولية والأميركية. إلى مساعدة موسكو على التوسّع والتركّز، بصفتها محطّة غاز احتكارية لكلّ أوروبا، لصاحبها بوتين ولا شركاه.
ذات يوم، بعد أشهر قليلة من احتلال القيصر الجديد للقرم، كان زعيم توتال على موعد رئاسي في موسكو. كان ذلك في تشرين الأول 2014. استقلّ طائرته الخاصّة. اختصر الوقت والمسافة والمقدّمات. أنهى اجتماعاته وعاد إلى مقعد طائرته ينتظر كأس نبيذه قبل الإقلاع.

لكنّ المصادفة المأساة الغريبة شاءت أن تضرب مجدّداً. فجأة تصطدم طائرة الرجل الأخطبوطيّ بمركبة جرف الثلوج على المدرج. تشتعل فيها النيران فوراً. فيموت هناك. في مزيج من نقيضين: ثلج موسكو ونارها معاً.
حزن بوتين جدّاً. كذلك طهران وبغداد سرّاً. أمر القيصر بالتحقيق الشفّاف فوراً. اكتشفوا شخصين مسؤولين عن الحادثة. أحدهما كان يقود مركبة جرف الثلوج وهو مخمور ثمل. وآخر مسؤول عنه.
اعترف المسكينان بجريمتَيهما فوراً. طبعاً بفضل تقنيّات الاستجواب الحديثة في روسيا القيصرية. كما في كلّ نظام يقدّس الحرّيات وحقوق الدفاع. أُدين الرجلان. لكنّ رحمة محاكم موسكو أكبر من قصاصها. ومغفرتها أعلى من عدالتها. فحظي “المجرمان” بعفو خاصّ.
في هذه الأثناء عادت توتال إلى قواعد اللعبة الدولية في الشرق الأوسط. لا لعب ولا ألاعيب ولا من يلعبون على الأنظمة وبحياتهم. تُرك لها هامش إفريقي، بصلات لبنانية شمالية. لكنّ ملفّ كريستوف دو مارجوري أُقفل نهائياً، وأُسدل ستار المشهد الثاني.

مشهدٌ ثالث بين بيروت والناقورة في تاريخ لم يمرّ عليه الزمن
عند الإعلان عن فتح سوق التلزيم النفطي والغازي للبنان قبل 11 عاماً، تجمّع أكثر من 46 شركة. توزّعوا على أكثر من 11 كونسورسيوم. تعرقل الملفّ سنوات. بفضل ميقاتي وبعده سلام ومعهما كلّ التركيبة وخلفهما رعونة إقطاعيّ الطاقة. حتى أُعيد إحياؤه بعد التسوية الرئاسية سنة 2018. فما بقي في السوق إلا عارض واحد. اسمه توتال. قيل إنّ رؤساء لبنان كلّهم توسّلوا وسيطاً لبنانياً نيجيرياً ليقنع باريس بإقناع توتال. تجنّباً لكارثة عدم وجود أيّ عارض أو شارٍ أو مجرّد مهتمّ بأساطير ثرواتنا التريليونيّة.
جاءت الشركة. وقيل إنّها فعلت على مضض. فهي تعرف القطاع. وتدرك حقائقه. وتحسب أرقامه بالأرقام. لا بأبيات الزجل اللبناني وأدبيّات دجل حكّام بيروت.
في حسابات توتال أنّ إسرائيل مثلاً، اكتشفت الغاز وأعلنت أوّل حقل بكمّيات تجارية، في حزيران 1999. وذلك بعد ربع قرن على اكتشافها كمّيات غير تجارية في السبعينيات.
ثمّ بدأت الإنتاج سنة 2004.
وبعد 18 سنة من الإنتاج التجاري الفعليّ، تمكّنت سنة 2022 من تحقيق رقم قياسي. إذ زادت إنتاجها 36 في المئة على ما كان في 2021.

مع كلّ ما سبق، بلغت عائداتها الغازية عن السنة الماضية، نحو 460 مليون دولار فقط.
توتال تعرف أنّ الشركة التي كانت قد التزمت حقول إسرائيل، أفلست. واشترتها شركة أخرى. وهي تكافح للبقاء.
توتال تعرف أيضاً أنّ أسعار الغاز إلى انهيار عالمياً. أقلّ من 2.5 دولار سعر الوحدة (MMBTU). بعدما كان فوق العشرة.
أي بحساب بسيط، وإذا سارت كلّ معطيات ثروة الناقورة الغازية بشكل مثالي، علينا أن ننتظر بين 5 و7 أعوام.
بعدها سنحتاج إلى إنتاج نحو 50 سنة فقط، لتعويض ما أحرقته وزارة الطاقة من ودائع في 10 سنوات فقط. على مازوت لا حاجة لها ولنا به. لولا جيوب مافيا المحروقات. وسنحتاج إلى قرن ونصف، لسدّ فجوة زبائنيّة المنظومة في حسابات مصرف لبنان…
المهمّ الآن الكرنفال. لبنان بلد نفطيّ. عنوان يكفي لنسيان ألغاز الموت على حفافي الغاز وسرقات المافيات.
انتهى المشهد الثالث.

النومانكلاتورا: هم “المعينون” باللغة الروسية وهو تعبير عن مفاتيح السلطة من الذين كان يعينهم الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي في مختلف مواقع الدولة ويشكلون منظومة حكمه

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى