جبيل التعايش، برو، سعيد، الحواط وسيمون.. هكذا يجب ان تكون السياسة
بقلم: ناجي علي أمّهز
البداية ما نفع الربح بالسياسة ان كنا سنخسر التعايش
دائمًا، كان الإنسان عدوًّا لما يجهل. وحده الحوار يكسر جدار العتمة، ويُعيد ترتيب ضوء الوعي في النفوس المتعبة. لا نحتاج إلى معجزة، بل إلى جلسة حوار صادقة، إلى مصافحة طويلة، ونقاش لا يتوقف، نردّد فيه معًا: “نحن من بلاد جبيل، من تراب فينيقيا، أبناء حضارة عتيقة، لا نُجيد إلا فنّ العيش المشترك.”
هكذا تنادى أبناء جبيل ـ من المسلمين والمسيحيين ـ حول لجنة الحوار الوطني، بشخصياتها التي تمثّل عمق هذا العيش الواحد وبرعاية ومشاركة: فخامة رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون ممثلاً بـ وزير الثقافة غسان سلامه غبطة البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي ممثلاً بـ سيادة المطران منير خيرالله السفير البابوي، المطران ميشال عون المفتي الشيخ عبد الأمير شمس الدين وعدد من أصحاب الفخامة السابقين، المطارنة، مشايخ الدين، والكهنة والرهبان، والوزراء والنواب الحاليين والسابقين، الذين بحضورهم أثبتوا أن جبيل هي باقة التلاقي، وحقل الأمل الذي لا يجفّ.
كان جلوس كل من النواب: النائب رائد برو إلى النائب السابق فارس سعيد، والنائب زياد الحواط والنائب سيمون أبي رميا. كلّهم، بلا استثناء، بحضورهم ليقولوا: نحن لا نختلف كي نتصارع، بل نختلف كي نتحاور.
كانت جبيل على موعد مع ضوء جديد، ضوء يشبه النبوءة. ضوء فيه شيء من المعجزة، ولكن أيضًا من الواقعية الصافية. هناك، في قاعة البطريرك الحويك، وبتنظيم لافت من لجنة الحوار الوطني، كان المؤتمر الأول للأخوة الإنسانية، صوتًا صارخًا في وجه الانقسام، تذكيرًا صارمًا بقدرتنا أن نكون أكثر من طوائف ومذاهب؛ أن نكون وطنًا، وبيتًا واحدًا.
قالها لي مرة الأباتي أنطوان ضو، وهو يبتسم بعيني الحكمة: “أعظم تعايش هو ما يصنعه أبو علي وأبو إيلي، حين يزرعان الأرض معًا، ويتقاسمان الأفراح والأتراح. تلك الأخوة الفلاحية، الجذرية، الصادقة، هي أسمى من أي وثيقة.”
قبل انطلاقة فعاليات الحوار.
هكذا كان المشهد. الكاميرات تلتقط لحظات نادرة من التقارب الحقيقي. النائب رائد برو والنائب السابق فارس سعيد في حديث ودود، يتبادلان الرأي والمحبّة، يرفرف بينهما جناح الحوار السياسي النظيف، في مشهد بدا للناس وكأنّه أكثر من صورة: كان درسًا علنيًا في ثقافة اللقاء، وبالختام المهم ان تبقى جبيل عاصمة الحوار والتعايش والثقافة.
ثم دخل النائب زياد الحواط، مبتسمًا، مليئًا بالحماسة. سلّم على الجميع بحرارة ثم شارك في حوارٍ ثلاثيٍّ دافئ، أكّد فيه الجميع على هذا النموذج الراقي من الديمقراطية الحقيقية، حيث لا يغلب أحد أحدًا، بل ينتصر الوطن بالتنوّع والتعاون.
وبينهم كان النائب الذي لا يهدأ، سفير التعايش في الخارج كما الداخل، سيمون أبي رميا. رجل نعتزّ به، لا فقط بدماثة أخلاقه، بل أيضًا بشبكة علاقاته الدولية التي ينسجها بلغة الاحترام، ويسخّرها بخدمة وطنه بلا كلل. كان حضوره تأكيدًا على أن السياسة يمكن أن تكون فنًّا راقيًا للحوار لا للخصام.
وفي المؤتمر، ارتفعت أصوات رجال الدين، مسلمون ومسيحيون، وكأنّهم يقرأون من كتاب واحد. نفس الروح، نفس المعاني، نفس الله الذي يحبّ الجميع، بلا تفرقة، بلا حدود. حتى المثقفون، من مشارب فكرية متباعدة، كانوا وكأنّهم أبناء فكرٍ واحدٍ، اسمه الإنسانية، كتابهم مفتوحٌ على رجاءٍ لا يخيب.
وفي لحظة مؤثّرة، تحدّث السفير البابوي، وبدا وكأنه لبناني منذ ألف عام. تُرجمت كلماته إلى العربية، لكنّ مضمونها كان بلغة لبنانية صرف: لغة التعايش، لغة الحوار، لغة الرجاء. في خطابه، اختُزل المعنى الحقيقي للبنان كرسالة.
نعم، هناك دول تصدر النفط، وهي أغنى منا.
وهناك دول تصدر السلاح، وهي أقوى منا.
وهناك دول تصدر التكنولوجيا، وهي أسرع منا.
لكن، لبنان؟ لبنان يصدر التعايش. لبنان يصدر الحضارة. لبنان يصدّر الإنسانية.
لبنان، ومن جبيل بالتحديد، منذ 5000 عام، يحمل شعلة السلام، ويعلّم العالم أن الحبّ ممكن، أن الحوار لا يحتاج إلى شروط، وأن التعايش ليس مشروعًا سياسيًا، بل قدَرٌ تاريخيّ نابع من القلب.
من دون لبنان، لن تكون هناك حياة.
ومن دون جبيل، لن يكون هناك لبنان.
ومن دون التعايش… لن تكون هناك إنسانية.