بعد عشرين سنة من النضال والتعذيب، حيث اعتُقلت لمدة تقارب الأسبوع في البوريفاج بعد اعتقال أنطوان حرب بفترة قصيرة، قررت في عام 2009 مغادرة التيار إلى غير رجعة، لأنني كنت أرى المشهد الذي وصل إليه كل من ناضل في التيار.
حاول اللواء عصام أبو جمرة أن يثنيني عن هذا القرار، وربما كانت مغادرتي التيار أحد الأسباب التي أدت إلى انعقاد لجنة الحكماء لمعالجة الكثير من الأمور التي كنت أتناقش بها مع العديد في التيار.
المقال يعبر عن رأي الكاتب وليس رأي موقع سانا نيوز
شرحت للواء عصام أبو جمرة أحد أسباب مغادرتي التيار، وهو ما شهدته في انتخابات عام 2009، خاصة في منطقة جبيل، حيث كنت أقود جزءاً أساسياً من المعركة الانتخابية لصالح التيار.
ذكرت يومها أن قاعدة التيار الوطني الحر ترفض التحالف مع حزب الله، وأن هناك فئة في التيار تخدع قاعدة التيار وتخدع حزب الله من أجل مصالحها، او اقله هذه الفئة تبرر لنفسها ان ما تقوم فيه بالسياسة هو مشروع، والسياسة فن.
ولكن في النهاية، ستنقلب هذه القاعدة الشعبية على التيار وعلى الحزب، وسنواجه حقداً وكرهاً مخيفين. إذا كان التيار لا يهتم بعواقب هذا الانقلاب لانها لا تشكل مشكلة له، فأنا على الأقل أحرص على ألا يدفع الشيعة ثمن تحالفهم مع التيار الوطني الحر.
قدمت بالأرقام كيف أن الأصوات الشيعية أنقذت لائحة التيار من خسارة مدوية أمام النائب السابق فارس سعيد.
وعندما بدأ يسري هذا النقاش في الغرف المغلقة للتيار، أدرك التيار أنه سيخسر الكثير إذا خاض انتخابات عام 2013، لذا قرر تأجيلها، خاصة أن الانتخابات كانت ستجري أثناء وجود العماد ميشال سليمان في سدة الرئاسة. وخسارة المعركة الانتخابية في العمق الماروني، خاصة في جبيل وكسروان، كانت ستضعف من حظوظ الجنرال عون للوصول إلى سدة الرئاسة.
عندما بدأت أسمع عن تأجيل الانتخابات، التقيت ببعض الشخصيات الأساسية في حزب الله وتناقشنا طويلاً في موضوع التأجيل. حذرتهم من أن التيار الوطني الحر قد يخدع الرأي العام المسيحي ويقنعهم أن الرئيس بري هو السبب في التأجيل، مما يعني أن الشيعة سيدفعون ثمن هذا التأجيل بينما المستفيد هو التيار الوطني الحر. كان رد الحزب أنهم لا يتدخلون أبداً في أي شأن يتعلق بالمسيحيين، والحزب ملتزم بورقة التفاهم مع التيار بعيداً عن النتائج وحجمها.
حقيقةً، لا أبالغ، من يقارن ما فعله الجنرال عون والوزير باسيل بحزب الله في أحلك الظروف وأصعبها، وكيف كان يفكر حزب الله تجاه التيار الوطني الحر، يدرك أن حزب الله لا علاقة له بالسياسة على طريقة البازارات.
وفي عام 2010، التقيت بشخصية دينية مسيحية كبيرة انتقلت إلى ملكوت السماوات، وحدثتني عن العديد من الأمور، منها انتخابات جبيل، حيث لأول مرة رأينا الشيعة في المكان الخطأ، واعتبر الشيعة فريقاً يدعم فريقاً مارونياً على حساب الفريق الماروني الآخر، مما يعني أن الفريق الماروني الآخر لن يغفر للشيعة أنهم كانوا سبب خسارة كل شيء. ومثل هذا الأمر مكلف للغاية على كافة المستويات، خاصة الاجتماعية.
في عام 2011، استقال البطريرك صفير من منصبه، وحدثت ضجة كبيرة على الشيعة، رغم أن الشيعة لا علاقة لهم بهذا الأمر. بدلاً من أن يبين التيار الوطني الحر أن سبب استقالة البطريرك صفير هو خلافات مارونية مارونية، سكت عن الموضوع وفتح معركة مع الرئيس بري وأخذ الأضواء كلها على الشيعة، فأصبح الذين مع التيار يكرهون الشيعة علنًا بسبب خلاف الجنرال عون مع بري، إضافة إلى المسيحيين الذين يكرهون الشيعة بسبب تحالفهم مع التيار.
يعني بدلاً من أن يصلح التيار العلاقة بين الشيعة والموارنة، نجح التيار في تقليب الرأي العام المسيحي، خاصة الماروني، ضد الشيعة. وأصبح الشيعة لا من التيار بخير ولا من المسيحيين خارج التيار بخير.
بالمقابل، كنت أنظر إلى إعلام المقاومة فأجد الكثير من الوجوه العونية البرتقالية على شاشات الإعلام المقاوم، وفي الاحتفالات الرسمية في مقدمة الحضور. وبدأت أسمع أن فلاناً عونياً يعمل في مراكز للبحوث التابعة للمقاومة، وكنت أتساءل في نفسي عن كيفية وجود مركز بحوث للمقاومة يديره أو يشارك فيه أحد عوني، وما هو السر المشترك الذي جمع التيار الوطني الحر بزحفا زحفا نحو القدس.
كنت أشعر في قرارة نفسي أن المشكلة كبيرة جداً وما يجري لم يعد يحتمل، وله تداعيات سلبية في نظرة الدول على اداء الشيعة السياسي.
في عام 2014، أرسلت خلفي شخصية دينية مارونية أطال الله في عمرها، وكانت بدأت تشعر بوجود خطر على الوحدة بين الموارنة والشيعة، وقالت لي: “يا ناجي، الظلام الدامس لا يمكن إزالته إلا بنور الشمس، لكن يمكن ايضا أن تشعل شمعة وإن كانت داخل الكهف، وسيتبعها من يحتاجون دليلاً في المسار نحو الحياة أو النجاة. اكتب، افعل أي شيء، أنت ذاكرتك ممتلئة بكل هذا التاريخ الطويل في الحرب والسياسة. المهم أن تستمر العلاقة الشيعية المارونية، قد لا يستمع إليك اليوم الشيعة لأنهم يمتلكون فائض القوة، وقد لا يصغي إليك الموارنة لأنهم متعبون من فقدانهم زعمائهم التاريخيين، وأصبح نصفهم في المهجر وامثالنا في القبر. وما بقي من موارنة قد يغيب عن بالهم بسبب الضخ الإعلامي والاخطا السياسية بأن الشيعة والموارنة شركاء تحت اشاعة الشمس في الزراعة والحصاد والأعياد والأفراح والأتراح وليالي الزجل والعتابا.”
من وقتها بدأت أكتب، لأبين أنه لا علاقة للشيعة بكل ما جرى على الساحة المسيحية، وأن كل ما جرى ويجري هو بسبب الصراع الماروني الماروني. ولكن المفارقة أن هناك طرفاً مارونياً استطاع أن يورط الشيعة في معركة ليست معركتهم، كما استطاع أن يأخذ من الشيعة كل شيء دون أن يقدم لهم حتى ورقة بيضاء في صندوق الاقتراع لسليمان فرنجية، بل انتخب ضدهم ورشح ضدهم من هو على نقيض تماماً مع الشيعة.
اليوم، استقال سيمون أبي رميا من الاطار التنظيمي للتيار الوطني الحر، وعلى الرغم من أن استقالته جاءت متأخرة جداً لانه كان يأمل ان تصلح الامور ويستعيد التيار توازنه ودوره الوطني، إلا أنني لا أعتقد أن استقالته ستغير شيئاً في سياق مسار التيار المتبع، وجميعنا نشعر بالحزن على تيار ناضلنا وقدمنا في سبيله كل ما نملك لاجل قيامة لبنان.
انا كل ما يهمني هو التاريخ المشترك للشيعة والموارنة في هذا الشرق، والذي يجب ان يبقى موحد ومتقارب “الى ابد الابدين”.