أسرار يجب أن يعرفها الشعب اللبناني عن اللواء عصام أبو جمرة
بقلم ناجي أمّهز
التاريخ يكتبه الأقوياء المنتصرون، واللواء عصام أبو جمرة طبق القول المأثور: “كن مع الحق ولو وهن أهله ولا تكن مع الباطل ولو ساد أهله”، لأن فوز الباطل ساعة ونصر الحق إلى قيام الساعة.
اليوم أكتب شهادة حية من التاريخ اللبناني الذي عايشته مع أهم زعمائه وصناع قراره وساسته، كما عشته بالصميم المعقد بين العسكر والسياسة.
أعلم أنكم ستقرأون هذه الكلمات في دقائق قليلة، وربما تستوقفكم عمرًا بأكمله، لكن صدقوني منذ 19 سنة وأنا أطالب اللواء عصام أبو جمرة بأن أكتب بضعة صفحات عنه، لأنني أعلم بأن كل صفحة هي قصة وطن.
كان يقول لي دائمًا وما زال يقولها: “لا تخاف الأبطال لا يهرمون إنما يقتلهم الحنين إلى الأيام الجميلة الصادقة، وكلما تقدم العمر كلما أصبح حبل الذكريات أمتن وأوضح. وعندما أكتب ذكرياتي ستكون موجودًا لأنك كنت موجودًا في بعضها”.
ويمازحني بقوله “اقعد عاقل يا محكاشون”، لأنه يعلم أنني أعرف الكثير.
اللواء عصام أبو جمرة، من طائفة الروم الأرثوذكس، رجل دولة يتنفس الوطنية والعروبة بالعقل والعادات والتقاليد والتصرفات، كما يعيشها بالشجاعة والشرف والتضحية والوفاء. وهو ابن قرية الكفير، قرية الزعيم فارس الخوري المفكر الوطني، أحد القادة الذين قاتلوا الانتداب الفرنسي مما ساهم في استقلال سوريا ولبنان. لذلك كل كلمة أو فكرة أو عمل يقوم به أبو جمرة يجب أن يكون في مقدمته التعايش والوحدة والانصهار الوطني، هكذا هم أبناء قرية الكفير.
منذ الخمسينات بدأ بمشواره الوطني وقدم الكثير للبنان، لكنه كان رجل الظل، هو لا يحب العراضات والبهورات، فلا يمكنك أن تشاهده او تسمع صوته، يعمل باخلاص وصمت قل مثيله، ويحفر الجبل بالابرة من شدة صبره، كما انه صاحب عزيمةوصلابة نادرة.
لن تجد من ينكر هيبة ورهبة عصام أبو جمرة، جميعنا دون استثناء نحترمه ونهابه لشدة التزامه واحترامه لنفسه ومن يعمل معهم. كان حازمًا صارمًا قاسيًا على نفسه، ونادرًا ما يتناول طعامه أو يرتاح قبل الانتهاء من عمله.
اللواء عصام أبو جمرة لم يفكر للحظة في أن تكون لديه شعبية على حساب دوره الوطني، بل يؤمن أن العمل الوطني الحقيقي هو الذي تثمر نتائجه في نجاح مستقبل أبناء الوطن، أما الأسماء والالقاب فانها زائلة.
الشيء الوحيد الذي يقول انه تعلمه بالحياة هو ان يبقى ضميرك يقظ لتعرف النجاح وتعيش بهدوء وسلام وان ترحل ايضا بهدوء وسلام، اما بحال نام ضميرك فانك لن تعرف حتى ان تغفو بسلام، او تعيش بسلام، وسترحل ولعنات التاريخ تطاردك حتى بعد الممات.
رجل تحمل أعباء أصعب ست وزارات، كلها أدت واجبها على أكمل وجه ونجحت في خدمة الشعب اللبناني رغم شح الموارد المالية بسبب صعوبة الجباية في ظل الحصار والحرب والقصف.
اللواء عصام أبو جمرة لواء عسكري متقاعد ونائب رئيس حكومة مرتين ووزير ست وزارات، وفي الختام فإن سيارته قديمة ثمنها لا يتجاوز 2000 دولار أمريكي ويعيش فقط من راتبه التقاعدي.
جميعنا نذكر مقولته الشهيرة من أمام معمل الكهرباء في الذوق: “نقطة على السطر”، وفعلاً أعاد التيار الكهربائي إلى المنطقة. أما اليوم فلا كهرباء ولا ماء ولا حتى طحين او دواء.
لا تكفي مقالة واحدة أو كتاب للتحدث عن اللواء أبو جمرة. هل أخبركم كيف كان يطارد موردي المازوت إلى الوزارة، لأنه كان يشعر بأن كمية المازوت لا تصل كاملة، وكيف اكتشف أن موردي المازوت يملؤون الصهريج بالماء فيطوف المازوت على السطح؟
هل أخبركم ماذا فعل ليلاً بعد مشاهدته نشرة الأخبار التي عرضت طوابير الناس على الأفران، وكانت وزارة الاقتصاد والتجارة معه؟ قبل انتهاء نشرة الأخبار كان يشرف شخصياً على توزيع حصص الطحين على الأفران ولمدة شهر كامل.
هل تصدقوني إذا أخبرتكم أنه أشرف شخصياً على تطبيق محرك جرافة على مطحنة من أجل طحن القمح وتأمين الخبز للناس؟
هل تصدقون أنه كان يعمل على تأمين مياه الشرب عند الفجر بعد إصابة القسطل الأساسي بقذيفة، وأثناء صيانة القسطل سقطت قذيفة أخرى وكادت تقتله ومن معه، ومع ذلك لم يتوقف عن العمل، بل تحدث عبر الجهاز وقال: “عم نصلح القسطل تتوصل المي لعندكم” وأكمل عمله حتى عادت المياه إلى كل بيروت.
ما أكتبه الآن ربما هو كلمة واحدة في مجلد عمره من عمر الوطن عمل فيه ومن أجله اللواء عصام أبو جمرة. ربما أساعده يوماً في كتابة مذكراته، مع أنني الآن أفلفش بذاكرتي التي نقشت فيها بعض المواقف التي كنت شاهداً عليها، وبعضها ناقشته معه مطولاً لأفهم أبعادها وأيضاً طبعت في ذاكرتي.
منذ وصول الجنرال عون إلى الحكومة العسكرية، والكيمياء مفقودة بينه وبين البطريرك الماروني الراحل نصر الله صفير، وكان هذا الأمر يقلق العميد عصام أبو جمرة بشدة، مع العلم بأنه حاول مرات كثيرة أن يدور الزوايا بين البطريرك صفير والجنرال عون، وكان كل مرة ينجح، ولكن بعض المواقف والتصريحات التي كان يقوم بها الجنرال عون كانت تعيد تعقيد الأمور مع البطريرك.
واللواء أبو جمرة كان يستشعر أن الخلاف بين الجنرال عون والبطريرك صفير سيحدث حتماً، وخسارة البطريرك تعني خسارة الغطاء المسيحي مما يكشف الحكومة العسكرية على الكثير من الاحتمالات. فجأة قرر العميد أبو جمرة تفعيل حضوره في اللقاء الأرثوذكسي، الذي كان يضم إلى جانب البطريرك هزيم والمطران عودة النخبة الأرثوذكسية. وأذكر بعض الأسماء منهم: فؤاد بطرس، إلياس سابا، إضافة إلى المعلم الكبير غسان التويني، وألبير مخيبر. لكن السؤال كيف يفعل حضوره في اللقاء الأرثوذكسي، ولا أبالغ إن قلت إن كل الذين كانوا يعملون مع اللواء أبو جمرة لم يكن لديهم الوقت لتناول الطعام أو حتى تبديل ثيابهم. ورغم ضغط الوقت والعمل والمسؤوليات على العميد أبو جمرة إلا أنه كان يحرص أشد الحرص على أن يكون أول الواصلين إلى اللقاء وآخر المغادرين.
وبقي أبو جمرة ثابتاً ومثابراً على حضور اللقاءات، وبعد حادثة بكركي في 6 تشرين الثاني 1989، فهمنا لماذا كان العميد أبو جمرة مصراً على حضور اللقاء الأرثوذكسي. لأنه لولا هذا التقارب مع اللقاء الأرثوذكسي، لربما كانت الحكومة العسكرية فقدت المظلة المسيحية المارونية والروم. بل حتى أن الروم الأرثوذكس هم الذين كانوا يمارسون الضغط في سوريا وأكثر من عاصمة وايجاد توازن وعدم انفلات الوضع على مصراعيه ضد الحكومة العسكرية. لذلك كان يقال إن الذي أطال عمر الحكومة العسكرية بتأمين الدعم المالي من العراق، وتوفير المظلة المسيحية والاهتمام بسير وزارات الخدمات هو أبو جمرة.
كل ما أكتبه الآن هو أول حرف عن مسيرة رجل عظيم قد تذهلكم سيرته، لكنه ظلم بسبب النظام الطائفي.
عندما كان الكونغرس الأمريكي يعمل على قانون محاسبة سوريا وإخراجها من لبنان، والذي تحول فيما بعد إلى القرار 1559، كان اللواء عصام أبو جمرة يعمل بمفرده على إقناع الرئاسة الفرنسية بسحب القرار 1559 من أيدي الأمريكيين. كان اللواء أبو جمرة يخشى أن تستغل الإدارة الامريكية القرار 1559 من اجل تغيير الشرق الاوسط خدمة لاسرائيل على حساب لبنان، بينما الاجندة الفرنسية ستنفذ القرار 1559 دون ان تكون له تداعيات شرق اوسطية.
بالختام انتصر ابو جمرة لوطنه بفضل حكمته وحنكته ولباقة تصرفه المستقيم وبصيرته الاستراتيجية بان تشرف فرنسا على تطبيق القرار 1559 .
وصدر عن باريس الموقف التالي: ان الرئيس جاك شيراك وجد انه من المناسب بحث الوقف مع نظيره الاميركي، وان كان يشعر ببعض “المرارة والعتب” من بعض المواقف السورية، وخاصة بما يتعلق بفشل تنفيذ باريس ـ 2 التي استثمر كل رصيده الشخصي دوليا وعربيا لانجاحها انطلاقا من ان امن لبنان الاقتصادي هو من امن سوريا الاقتصادي ايضا، ورغم عدم انطلاق “القطار الاصلاحي السوري” بالسرعة الكافية، الا ان الرئيس شيراك يرى ان التطورات لن تحقق للبنان سيادته واستقلاله كما طالب علنا في مجلس النواب اللبناني خلال زيارته للبنان قبل سنوات، ولان شيراك كان يعرف موقف بوش وادارته من سوريا، فانه حاول التأكيد على الفصل بين موقفه من استعادة لبنان لاستقلاله وسيادته وتسوية الملفات العالقة بين واشنطن ودمشق.