سماحة الشيخ عفيف النابلسي
في وداع الفقيه العفيف
محمد حسين بزي
في ربوع بلدة البيسارية الشاهدة على البحر المتوسط من عليائها، والمستوية بين هضاب عاملة مأوى العلم والكدح والنضال، ولد عفيف بن محمد بن علي بن أحمد النابلسي سنة 1941 لأبوين مؤمنين عايشا القهر والمُرّ والظلم جرّاء الاحتلال الفرنسي، ومن قبله البطش العثماني، ولاحقاً شهِدا على احتلال فلسطين وما جرى من تنكيل وتهجير ومجازر ارتكبها الصهاينة بأهلها وأهالي القرى الجنوبية المجاورة لها في الأرض والدم والتاريخ… حتى توفيت والدته ولا يزال طفلاً، فعاش يتم الأم ومرارة فقدانها، وما إن بلغ السابعة من عمره حتى أُعلِنت دولة الكيان الغاصب «إسرائيل»، فشبَّ الصبي على شهقات الوقت الصعب، ترفده نُبْل الجراح المتعبة، وتشدّ عوده نجاعة الدم المسفوك على ثرى فلسطين وفي سبيلها، وتصقله شجاعة المطر المصاحب لخضرة الأرض ونجابة التراب وعراقة الثوار المنتشرة من دماء الآباء ودموع الأمهات، حتى اعتمر الفتى العاملي القضية قبل العِمامة، وحملها في قلبه الواله بتحدي الموجود في فن الاستطاعة، محدِّثاً عقله المتّقد بالعزم المفطوم عاملياً، والذي بدأ يعي ثقافة الرفض والاعتراض على الظلم والحرمان، محاكياً النوائب والمصاعب التي سكنته، فأعلى في بناء ذاته الثورية، وروحه الشعرية وقد تبدّت بأبيات من الشعر المحكي والفصيح ولم يبلغ الحلم، وما برح الفتى يسابق عمره وجيله الذي انماز عنه في تحمّل المسؤولية الدينية والثقافية والسياسية قبل أوان سِنِّه الغضّة؛ فحفظ القرآن الكريم قبل الحلم، وأسّس مدرسة لتعليمه في البيسارية ولم يبلغ العشرين، وكان هذا الأمر لافتاً في محيطه الاجتماعي الذي برز فيه عندما التحق بالإمام موسى الصدر سنة 1966 طالباً في معهد الدراسات الإسلامية في صور، وأصبح من المُشار إليهم ببنان الكدّ والجدّ والمتابعة التي خصّه بها أستاذه الصدر بعد أن اكتشف في تلميذه الملكات والمواهب الواجبة للعلم والقيادة في آن، فأصرّ الإمام الصدر على تعميمه سنة 1969، ومع العِمامة تثقل المسؤولية على كاهل الشاب العفيف.
أتمّ الشيخ خمس سنوات من دراسة المقدّمات والسطوح العالية بتفوق؛ وكانت دخلت سنة 1971 فتوافق رأي الإمام الصدر مع رأي تلميذه الأثير إلى قلبه على السفر إلى النجف الأشرف لمتابعة تحصيله العلمي. وصل الشيخ عفيف إلى النجف التي أحبّها من فوره، وأكمل مرحلة السطوح العالية على السادة: عبد الصاحب الحكيم (1943 – 1983) ومحمد حسين الحكيم (1947 – 1983) ومحمود الشاهرودي (1948 – 2018)؛ وليبدأ في حضور درس الخارج على السيد الخوئي (1899 – 1992) والسيد محمد باقر الصدر (1935 – 1980) حتى كانت أواخر سنة 1977، فانتدبه الصدر وكيلاً عنه في مدينة الحرية الأولى/ بغداد، واتخذ الشيخ عفيف من حسينية هادي الشلبي منبراً له حتى رحّلَه النظام العراقي إلى لبنان سنة 1979 بعد أن سجنه وعذّبه وصادر كتبه (المخطوطة)؛ سيما تقريرات بحث الخارج لأستاذه المرجع محمد باقر الصدر.
عاد الشيخ إلى لبنان وقلبه ينزّ عن جرحين، الأول مصادرة كتبه المخطوطة، وثانيهما وكان الأشد؛ تغييب أستاذه الأول السيد موسى الصدر سنة 1978، وبقي هذا الجرح يغور في صدر الشيخ الذي ما برح يذكر الإمام الصدر في جلّ خطبه العامة؛ فضلاً عن مجالسه الخاصة.
وتعدو الأيام، وتنتصر الثورة الإسلامية في إيران، فيكون الشيخ عفيف في طليعة العلماء الذين وقفوا إلى جانبها ودعمها بكل ما أوتي من قوة. وتمضي الشهور ليتابع الشيخ العفيف عمله الديني مع الشيخ محمد مهدي شمس الدين (1936 – 2001) ضمن مؤسسة المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، ويسافر إلى عدّة دول عربية وأفريقية وأميركية وأوروبية للتبليغ الديني ولحضور المؤتمرات العملية والفكرية.
وتتوالى الشهور، ويأتي السادس من حزيران سنة 1982 ويبدأ الاجتياح الإسرائيلي للبنان؛ ليبدأ الشيخ مرحلة جديدة من جهاده في التصدي للعدو بما استطاع من وسائل وإمكانات. وتدخل سنة 1983 ويتم تأسيس هيئة علماء جبل عامل – التي ترأّسها لاحقاً – مع ثلّة من العلماء، وكانت أولى مهامها التصدي للاحتلال بقيادة علماء الدين، وتعبئة الشباب وحثّهم على الالتحاق بصفوف المقاومة، أيضاً مساندة ودعم القضية الفلسطينية بكلّ الوسائل المتاحة، حتى أفتى الشيخ عفيف لاحقاً بدفع الخمس والزكاة لنصرة فلسطين.
وبعد الاجتياح الإسرائيلي، بدأ الفعل المقاوم بالتصاعد وأُسقِط اتفاق 17 أيار بدماء الشهيد محمد نجدي (1965 – 1983)، على تخوم مسجد الإمام الرضا في بئر العبد، ثم جاءت انتفاضة السادس من شباط سنة 1984، واغتيال الشيخ راغب حرب (1952 – 1984) في 16 شباط من السنة نفسها، وهنا أخذ مسار العمل المقاوم يتغيّر في لبنان، وكانت بدأت مرحلة جديدة غيّرت وجه الصراع مع العدو؛ ووجه المنطقة لاحقاً، إنّها مرحلة انطلاقة المقاومة الإسلامية، فكان الشيخ عفيف من مؤسّسي هذه المقاومة، ومن الرافدين لها والمدافعين عنها رغم الأثمان الباهظة التي دفعها، ولم يكن آخرها تدمير مجمّع الزهراء ومنزله ومكتبته الخاصة في صيدا أثناء عدوان تموز 2006.
وتمضي الأيام بحلوها ومرّها، ويبتعد سماحة الشيخ تدريجياً عن تفاصيل السياسة اللبنانية، ويتفرّغ للتدريس والتأليف حتى جاوزت مؤلفاته الأربعين ما بين الفقه والأصول وقضايا الفكر والاجتماع والتاريخ، وبعضها في عدّة أجزاء، مثل فقه الأئمة في ستة أجزاء، وسيرة المعصومين في 14 جزءاً، إضافة إلى «ديوان العلّامة النابلسي» الذي صدر سنة 2018 وجمع فيه معظم شعره المنشور في عدّة دواوين سابقة.
ويعاود العلّامة النابلسي بناء مجمّع الزهراء في صيدا، ويضم إليه حوزة علمية للرجال وأخرى للنساء، ومكتبة عامة، وقاعة مسرح، وأخرى للمؤتمرات، وقد شهدت عقد عدّة ندوات فكرية ومؤتمرات علمية، فضلاً عن المسجد الكبير والحسينية.
بقي آية الله النابلسي وفياً لمبادئه، صادقاً مع فكره، متواضعاً للصغير قبل الكبير، يبثّ ثقافة المحبّة والحوار بين الأديان والطوائف على مساحة الوطن والعالم، ويؤصّل للوحدة الإسلامية فكراً وفقهاً ونهجاً، ويدفع بالتي هي أحسن مع كل الذين اختلف معهم أو اختلفوا معه، الأمر الذي أكسبه محبّة واحتراماً عزّ نظيرهما، وهذا ما تجلّى في نعيه الذي انتشر على مساحة العالم الإسلامي.
إنّه عصر الجمعة 14/7/2023 وفي مجمّع الزهراء كان كتب الله وما شاء فعل، ووري الفقيه العفيف ثرى مدينة صيدا التي أحبّ بعد مأتم مهيب. وما إن أهيل التراب على الجسد الطاهر حتى شُرِّعت أبواب الرحمة وأكفّ الدعاء بين الأرض والسماء، وظهرت إلى العيان آيات المحبّة التي زرعها الشيخ في القلوب الحزينة على فراقه بعد ثمانين واثنين من الأعوام قضاها في سبيل الله وإنسانه. وصدق جلال الدين الرومي عندما قال: «وبالمحبّة تصبح كل الآلام شافية».
أخيراً، إنّ سيرة خلّاقة بهذا الحجم من التراكم المعرفي والثقل العلمي والفقهي، فضلاً عن تدافع الخبرات وتنوّعها في الاجتماع والسياسة والثقافة جديرة أن تُدْرَس، وأن يُعقد حولها أكثر من مؤتمر ينتدي فيه تلاميذه ومن عايشه من علماء ومفكّرين ومثقفين للوقوف على الأبعاد والسِّمات الروحية والفكرية التي صقلت شخصية الفقيه النابلسي. أيضاً وربما الأهم، تكشيف مبانيه الفقهية والفتوائية الجريئة كما عُرفت عنه في حياته، وجعْلها في متناول الدرس والبناء عليها كي تعمّ زكاة لكل طالب علم ومعرفة، لأنّ من الطبيعي مع شخصية علمية كبيرة أن يكون لها من الأفكار والآراء التي لم تظهر بعد، أو لم يظهِرها صاحبها، ولكن بغضّ النظر عن علل عدم ظهورها في حينه، فهذه الآراء وتلك الأفكار جديرة بالإظهار الآن، ولعَمري هذا من الوفاء للراحل الكبير، وتلك هي مسؤولية البررة من أبنائه وتلاميذه.
ختاماً أودِّع الفقيه العفيف النابلسي بشعره:
تغيّبت والليل الطويل يلفّنا
وما عهدنا أن الشموس تغيب
*شاعر وروائي لبناني،
المدير العام لدار الأمير في بيروت.