.

النعماني لـ “الديار”: لبنان يُصرّ على “تثبيت” الحدود البريّة… و”إسرائيل” تُطالب بإعادة ترسيمها لصالحها… الخلاف على بلدة الغجر بين لبنان وسوريا قائم منذ العام 1963… وخرائط فرنسيّة تُظهرها تابعة للبنان

كتبت دوللي بشعلاني في جريدة “الديار”

إنّ ترسيم الحدود البريّة الدولية، أي النهائية للبنان ليس وليد اليوم، بل هو مسألة مطروحة منذ إعلان دولة لبنان الكبير في العام 1920. لهذا فثمّة إتفاقيات وخرائط ووثائق تختلف فيما بينها بحسب الظروف والمعطيات، ما يجعل الخلافات تتصاعد في كلّ مرّة حول ملكية هذه البلدة الحدودية أو تلك، لا سيما بين لبنان و”إسرائيل” (فلسطين المحتلّة) من جهة، ولبنان وسوريا من جهة ثانية. واليوم يُحاول “الإسرائيليون” الإستيلاء على الجزء الشمالي المحتلّ من بلدة الغجر الحدودية، من خلال ضمّ بعض من أراضيها ضمن السياج الشائك الذي يقيمه عند الحدود الجنوبية.. فما هي حقيقة الترسيمات الحدودية؟ وما الذي تحتاجه لتُصبح نهائية؟ وماذا عن الخلاف على بلدة الغجر بين لبنان وسوريا التي هي مطمع “الإسرائيليين” حالياً، والتي وُضعت في إحدى الخرائط القديمة بكاملها ضمن الأراضي اللبنانية؟!

يقول السفير الدكتور بسّام النعماني المتابع لقضايا الحدود البريّة والبحرية لـ “الديار”، إنّه بالنسبة إلى الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة، فإن “التثبيت” كان علامة الموقف اللبناني الفارقة بعد انسحاب القوّات “الإسرائيلية” من المنطقة الجنوبية في العام 2000، وعودة إنسحابها بعد حرب تموز 2006. فـ “إسرائيل” كانت تريد فتح مفاوضات لإعادة “ترسيم” الحدود البريّة الجنوبية وإجراء تعديلات عليها لصالحها، وتخطيط هذه الحدود على خرائط مستحدثة. أمّا لبنان فقد رفض “الترسيم”، وأصرّ على “تثبيت” الحدود بموجب الخرائط المرفقة بالإتفاقية الحدودية المعقودة بين بريطانيا وفرنسا في 1923 (المعروفة بإتفاقية “بوليه- نيوكومب”) وخط الهدنة في العام 1949 ، التي أبرزها الدكتور عصام خليفة مرّات عدّة. وكان المطلوب لبنانياً وقتذاك مطابقة خريطة “بوليه-نيوكومب” على الخرائط الحديثة المتوافرة. والإتفاقية كان قد سبق تسجيلها في عصبة الأمم في العام 1923، فأصبحت بالتالي إتفاقية دولية معترف بها وقابلة للتنفيذ.

ومن ثمّ كان للبنان في العامين 2000 و2006 “تثبيت” الحدود كما أراد، على ما أضاف النعماني، من دون الدخول في مفاوضات لا طائلة منها مع العدو الإسرائيلي. ولم يحصل وقتها “إعادة الترسيم” التي أرادته “إسرائيل”.

أما مسألة الحدود بين لبنان وسوريا، فقضيتها تختلف تماماً عن مسألة الحدود الجنوبية مع فلسطين المحتلّة. فهي تحتاج، على ما أوضح النعماني، من الناحية التقنية إلى عمليتين منفصلتين: أي “الترسيم” و”التحديد”…وليس “التثبيت”، إذ لا توجد خرائط “موحّدة” معترف بها بين لبنان وسوريا. فالحدود الشرقية والشمالية للبنان والتي تنطلق من محيط نبع بانياس إلى الجديدة في أقصى الشمال، هي من صنع ضبّاط وخبراء المساحة التابعين لجيش الشرق الفرنسي. وهؤلاء الضبّاط كانوا يأخذون تعليماتهم في النهاية من الحكومة الفرنسية في باريس. وهم لم يكونوا بحاجة إلى التفاوض مع السلطات المحلية في بيروت ودمشق. وممّا لا شك فيه بأنّ جيش الشرق الفرنسي قد استعان عند المسح الخرائطي في تلك الفترة بالقوى المحلية والعسكرية (أي مخاتير البلدات والسرايا اللبنانية والسورية المرتبطة بالجيش الفرنسي).

وقد كان من الواجب على الفرنسيين بعد الإنتهاء من عملية ترسيم الحدود السورية-اللبنانية على الخرائط الورقية في أوائل الثلاثينات، على ما تابع النعماني، أن يحيلوها إلى عصبة الأمم (مثلما فعلوا مع اتفاقية “بوليه-نيوكومب”)، خصوصاً وأنّ تسليم هذه الخرائط كانت إحدى موجبات النظام الأساسي للإنتداب الفرنسي المسجّل لدى عصبة الأمم في العام 1924. لكن فرنسا لم تسلّم خرائطها المتعلقة بالحدود بين لبنان وسوريا إلى العصبة، بل إن الخرائط الفرنسية للحدود اللبنانية – السورية كانت في الأصل عرضة للتبديل والتغيير بمرور الزمن. وهذا يعني أنّها لم تكن حاسمة ونهائية (على سبيل المثال الخرائط العسكرية الفرنسية الصادرة في الأعوام 1941، و1942، و1946، مقياس 1: 50،000 تضع بلدة الغجر بأكملها داخل الأراضي اللبنانية).

وعن أسباب عدم قيام فرنسا بتسليم خرائط ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا إلى عصبة الأمم آنذاك، يجيب النعماني بأنّ الأسباب كثيرة ومتشعّبة، ومنها المقاومة الوطنية من قبل اللبنانيين والسوريين للإنتداب، ما أوجد حالات طويلة من إنعدام الأمن الوطني (الثورة السورية الكبرى في العام 1926 على سبيل المثال). وكذلك عدم إستقرار رأي الفرنسيين أنفسهم حول التقسيمات والدول التي سيتألف منها لبنان وسوريا (مثلاً هل يتم تقسيم سوريا إلى 5 دويلات: دمشق، وجبل الدروز، وحلب، وحمص، وبلاد العلويين؟ هل يتم تسليم لواء الإسكندرونة إلى تركيا؟ هل تقتطع بعض الأقضية اللبنانية؟….إلخ). ثم أن فرنسا لم تر نفسها على الصعيد المعنوي مُلزمة بتسليم الخرائط إلى عصبة الأمم. فالمنظمة لم تكن تحظى بهذه المكانة الدولية التي تحظى بها الأمم المتحدة اليوم. فقد فشلت العصبة فشلاً ذريعاً في لجم التطلّعات الإستعمارية لدول المحور (ألمانيا، إيطاليا، واليابان) ما أسقط هيبتها وعرضها للكثير من الانتقادات على الصعيد الدولي.

وبالعودة إلى مسألة ترسيم الحدود اللبنانية-السورية بموجب قرار مجلس الأمن 1701، فيشرح النعماني أنّ جلّ ما لدينا هو الخرائط الورقية التي خطّتها سلطات الانتداب الفرنسية على قياسات مختلفة (1:50،000 أو 100،000، أو 250،000…إلخ). وقد ورثت السلطتان اللبنانية والسورية هذه الخرائط بعد الاستقلال في العام 1943. وكان مستودعها الأساسي المكتب الجغرافي التابع لجيش الشرق الفرنسي ومقرّه الرئيسي دمشق (مع وجود فرع للمكتب في المندوبية الفرنسية في بيروت).. وعليه، فإنّه من غير المعروف إذا كانت السلطات الفرنسية قد خلّفت وراءها بعد إنسحابها العسكري في العام 1944 الوثائق والمستندات المتعلّقة بترسيم الحدود بين سوريا ولبنان خلال فترة 1920-1930، أو أنّها بخلاف ذلك، قامت بسحبها من المكتب المذكور وأودعتها في مكان آمن، خصوصاً وأن باريس كانت لا تزال تحت الإحتلال الألماني. وحتى ولو تمّ الإفتراض بأنّ دمشق ما تزال تحتفظ بهذه الخرائط والوثائق ولا تريد الإفراج عنها، فإنّ الدكتور خليفة قد نشر الكثير منها والمحفوظ نسخاً عنها في الأرشيف الفرنسي في مدينة نانتس. وهذه الوثائق والخرائط التي نشرها ساهمت كثيراً في توكيد “لبنانية مزارع شبعا”… ولكنها غير كافية على صعيد ترسيم كامل الحدود بين لبنان وسوريا.

ويؤكّد السفير النعماني أنّه بُعيد الإستقلال، قامت السلطتان السورية واللبنانية بـ “تعريب” هذه الخرائط الفرنسية وإعادة نقلها ورسمها كما هي… ولكن ليس قبل أن تقوم بالزيادة عليها أو بالنقصان. والسبب في ذلك أنّه قد برزت مسائل التداخل الحدودي بين القرى اللبنانية والسورية عندما بذلت المحاولات للـ “تثبيت” والـ “تحديد”على الحدود. وكانت لمنطقة مزارع شبعا حصتها من الخلافات، سواءً على صعيد الترسيم في الخرائط (حيث تمّ اكتشاف التباينات الموجودة في الخرائط الفرنسية)، وبين المحاولات لبسط السيادة على تلك المنطقة الاستراتيجية الحسّاسة. ولإعطاء مثال على ذلك، هو هذه الخريطة المرفقة بتقرير صادر عن السفارة الأميركية في بيروت في 22/4/1963 والتي نشرها الخبير الجغرافي “الإسرائيلي” آشر كاوفمان في كتابه حول حدود فلسطين المحتلّة. ففي إطار محاولات منع “إسرائيل” تحويل روافد نهر الأردن لريّ صحراء النقب، قامت السلطات السورية بحفر قناة شمال نبع الوزاني لجرف المياه إلى سهل بلدة النخيلة. وقد وقعت تباينات ونزاعات بين لبنان وسوريا في العام 1963 حول الحدود في هذه المنطقة كما تبيّنها الخريطة المُرفقة:

فمنشآءات قناة التحويل المحفورة من مصب نهر الحاصباني ونبع الوزاني شمالي بلدة الغجر تتمثل في الخريطة بالدوائر الصغيرة المتسلسلة، يضيف النعماني، والمنطقة المتنازع عليها بين لبنان وسوريا غربي نهر الوزاني كانت فعلياً واقعة تحت السيطرة اللبنانية. أمّا المثلث الذي يضمّ بلدة الغجر وما حولها، فهي أيضاً منطقة متنازع عليها بين اللبنانيين والسوريين، ولكنها في واقع الأمر كان السوريون قد مدّوا سيطرتهم عليها. ولبنان في العام 1963، كان يعتبر أنّ بلدة الغجر تقع بأكملها داخل الأراضي اللبنانية، ويعتمد في ذلك على خرائط الجيش الفرنسي في فترة الأربعينات. بينما كان يصرّ السوريون على أنّ الغجر لهم بموجب خرائطهم. والشريط الرفيع غرب نهر الحاصباني هو منطقة سورية بإعتراف الخرائط السورية واللبنانية،…ولكنها كانت واقعة في تلك الفترة تحت سيطرة اللبنانيين!

ويختم النعماني بأنّ هذا نموذج واحد عن التداخل في الحدود اللبنانية – السورية، ويمثل التباينات في الخرائط التي يحتفظ بها كلّ من الطرفين، والتي ورثاها عن الجانب الفرنسي. فمنها ما هو ناتج عن الجانب الفرنسي الذي كان يُعدّل في الخرائط من دون حسيب أو رقيب، ومنها ما هو نتيجة قرار آحادي لبناني أو سوري بتعديل الخرائط بطلب من السلطات في البلدات والقرى الحدودية، وهو مؤشر إلى الصعوبات التي ستواجه التوصّل إلى إتفاق نهائي بين الطرفين اللبناني والسوري حول هذه المسائل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى