اقلام

كتب الشيخ حسين شحادة، ثورة الإمام الحسين في سياق التنوير وجهاد المعرفة

ثورة الإمام الحسين في سياق التنوير وجهاد المعرفة

الشيخ حسين أحمد شحادة

ما أكثر أشواك الطريق إلى تاريخنا وما أكثر أشواك الطريق إلى ماذا نريد في مستقبلنا المهموم بفجائع حاضرنا .
وما نرجوه من منهج قراءتنا للحدث الكربلائي أن لا تجيء المقاربة استنساخآ سرديآ يعرض علينا نهضة الإمام الحسين على طبق من ذهب من دون أن نلتفت إلى عواملها في سياق الفهم العميق لسنن التاريخ وفلسفته .
وهي عندي مفتاح الضوء نضغط عليه فيضيء ظلمة الليل فلا يصير التاريخ مضخة لتصدير الفتن أو مشجبآ نعلق عليه إخفاقات الواقع المرير عن مواجهة التحديات
من هنا يأتي ـ جهاد المعرفة ـ مدخلآ للفهم الحقيقي للدين ورموزه وقيمه الروحية وفي مقدمها رفض الظلم ومقاومة الفساد والاعتراض على العبث بحقوق الإنسان وامتهان كرامته .
ومن هذا المنطلق نفتح قضية الإمام الحسين على قضايانا الكبرى بفكرة أساسية هي فكرة الموقف السياسي الجريء وتوحيد كلمة الأمة ضد الأعوجاج والإنحراف عن مسار وحدتها المباركة وهذا يعني وجود صلة عميقة بين آلام الإمام الحسين وآلامنا المصابة بمحنة التضليل والتزوير وتجويف القيم فيما نشهده من نفاق في التدين ودجل في السياسة .
فما نجده في خطب الإمام الحسين وسجالاته ومعاركه الفكرية والسياسية يعبر عن طموح نهضتنا إلى كشف الغطاء عن الخطأ وتنوير الوعي العربي والإسلامي بكل ما هو فاسد وظالم .
وعلى هذه المهمة التنويرية سندخل إلى ثورة الإمام الحسين ومحرابه لا بوصفه إمامآ لمذهب أو طائفة بل بوصفه إمامآ لحركة التنوير التي قادها تحقيقآ للإصلاح في أمة جده محمد صلى الله عليه وآله .
وبذلك تسهم كربلاء المعنى في عملية تجديد حياتنا واستنهاض إرادتنا من داخل حركة الصراع مع الإحتلال الصهيوني ومشاريعه ومؤامراته التي ذهبت بأضخم حروبها العدوانية إلى تعطيل نهضتنا وتمزيق وحدتنا وإخراجنا عنوة عن مواكبة العصر وبناء المستقبل .
ولعل أهم ما أعطاه الإمام الحسين لتاريخنا هو هذا المنهج أعني منهج الإعتراض والمقاومة وليس في بوصلة حياته عليه السلام طلب السلطة فتراه يوجه أصابع الإتهام إلى مهزلة الحكم الجائر من دون أن يغفل نقده الصارخ لتبعية الناس والرعاع لهذه المهزلة ما يعني أن نقطة الإنطلاق يجب أن تبدأ من تغيير المجتمع فلا ثورة في ظل الجهل ولا نهوض يقوم على جاهلية دينية أو وثنية سياسية .
إن السيرة الملحمية لشخصية الإمام الحسين عليه السلام تلفتنا إلى دور التدين الأعمى وعصبياته في توليد المآسي على امتداد حياتنا التي فصلت أواصر العقيدة والإنتماء والهوية عن آفاق النهوض المرتجى والأمين على مبادئ الحق والخير والعدالة .
كذلك وستبقى كربلاء الدين والروح مرهونة بجوهرها .. وجوهرها من الفكر إلى السلوك بمنهاح الإمام هو حماية الأرض والإنسان من جريمة تكرار الظلم وتكرار الفاجعة .
بلى كان الإمام الشهيد ثائرآ وشاهدآ على قضية العدل والظلم في عصره شهد بعينيه أحزان أمته وآلام المفجوعين بدينهم وأوطانهم فاختار أن يفتح لهم بدمه التنويري طريقآ لجنان حقهم بالحرية والإستقامة .
وكأن الحسين الذي أوقظ النيام من رقاد الاستسلام لزيف الأمر الواقع لم يزل بمصابيحه المعرفية يوقظ النيام وتلك مأثرته في تحرير العقول وجلاء الصدأ عن النفوس وقد انصبت عنايته عليه السلام على إصلاح بصيرة الأمة التي غلبتها الجهالات القبلية فتصدع نصابها المعرفي والعقلي وهو أمر ملحوظ في خطب الإمام الوعظية والفكرية ولا سيما في مواجهته عليه السلام لظاهرة الانقسام الإسلامي ـ الإسلامي وجنوحها إلى الغلبة بذهنية التكفير والتكفير المضاد .
ولنا أن نتحرى هذا المشهد البائس عشايا الفتنة الكبرى وحروب التأويل بين أبناء الأمة الواحدة
وليس أقل مثال على هذا اختلاق الأكاذيب على خاتم الأنبياء واغتيال الصحابة والخلفاء وضرب رموز أئمة أهل البيت وتجريدهم من أبسط حقوقهم في المواطنة الكاملة والمتساوية .
شهد الإمام الحسين انحطاط الأمة وضمور فكرها الإصلاحي وإحجامها عن الإفصاح عن أحزانها المعطوفة على ضعفها الثقافي والأخلاقي بتحريف واضح لمفهومات الإيمان والكفر واتباع سياسات السلطة حتى لو كانت متناقضة مع قيم الإسلام ورسالته .
وإذن شهد الإمام الحسين الغلو المتنامي في شؤون الدين كما شهد بطش والإرهاب المتمادي في شؤون السياسة وجرى ذلك كله أمام عينيه فرأى السقوط قد تجاوز كل الخطوط الحمراء وأن المشكلة الكبرى لم تعد مشكلة تسلط وفساد فحسب بل مشكلة انهيار القيم وانهيار المعرفة بالإسلام واندراج نزعات النخب إلى التطرف ولغة العنف بفعل تأثير الإسرائيليات والأعراب وفلول النفاق على بناء الشخصية الإسلامية وتدوين تراثها .
واجه الإمام الحسين وضعآ اسلاميآ معقدآ وافتراسيآ يتجه إلى تدمير الأسس التي بني عليها الإسلام فنهض من أجل استعادة الذات الإسلامية وترشيدها وتحرير العقل الديني من التشوهات القبلية التي تسللت إلى رأس الموقع الأول للإسلام .
إن البيان الأول لحركة الإمام الحسين كشف عن خطورة انشطار العقل الديني وصراعات المجتمع العبثية واستشراء عوامل الحقد وعوامل الكراهية بين القوى المتناحرة وعلاقاتها المتوترة بعضها مع بعض وقد انعكس واقع التجزئة والتفرقة على تاريخنا المقيد بأثقاله فانتقلت سمومه إلينا عبر العصور والحقب لتغدو النعرات الطائفية والمذهبية والسياسية مصدرآ من مصادر إعاقة التقدم وإرادة النهوض والحياة .
ومن المفارقات الساخرة أن يقودنا هذا التفسخ وهذا التفكك إلى وهن غير مسبوق في تاريخنا فتح شهية الأعداء على تسويق ما يسمى بمشروع الشرق الأوسط الكبير كنتيجة حتمية لأزمة الوعي الإسلامي والعربي بموجبات الوحدة وشروطها الموضوعية والحضارية .
قدم الإمام الحسين نموذجآ إنسانيآ لكل المظلومين ولكل الأحرار في هذا العالم وترك لنا الدرس الأعظم هو درس المسؤولية المرهونة بمدى قدرتنا على الانتصار في ميادين المعرفة والتنوير ومن دون ذلك لا معنى لأي قراءة معاصرة لعاشوراء .
وتكفيني الإشارة أن الذين عاصروا الإمام الحسين وخذلوه كانوا لا يعرفون حق المعرفة من هو الإمام الحسين عليه السلام
وما معناه في ميزان الحق والباطل وفي شرعة الاحتكام لمرجعية العقل والأخلاق فما من هزيمة في التاريخ وقعت على أمتنا إلا كانت مسبوقة بأزمة المعرفة وأزمة الاستهتار والحياد واللامبالاة .
وبكلمة لم يترك الإمام الحسين عذرآ لأبن حرة يأتي بعده فيعتزل كما يعتزل العبيد عن فريضة التفكير وفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. ومن هنا نبدأ .
فماذا أقول أكتفى الصالحون بالصمت الذهبي فيما اسم الحسين عليه السلام يقطر حزنآ من خواتمهم والمدى ها هنا القرآن مهجور والمساجد خالية من خشوع الصلاة ومنابر المشهد الديني ظلام ولا شيء يوجع قلب الحسين سوى تكرار الصمت النائم عن طغيان الظلم والاحتلال وتزوير الدين والقيم .
ولا شيء يوجع قلب الإمام الحسين ويدميه سوى قسوة القلوب وتحجر العقول وانكسار الميزان وغربة الشهداء في الزمن الرديء أن ترى الفوضى ههنا وهناك تساوي على وتر الخراب وتزوير القيم بين القاتل والقتيل .
وأخيرآ لا نريد لكربلاء أن تكون مأتمآ ومناحة نبكي ولكن دموعنا على الإمام الحسين هي امتداد لدموع النبي على أمته وقد أضاءت ظلام العالم الموحش لتحثنا على معنى أن يكون الحزن صابرآ ومقاومآ في زمن العقول النائمة والقلوب المقفلة .. إنها الدموع التي ترفض على مدى التاريخ أن يصير الباطل حقآ والحق باطلا .
لا أنين في لغة الإمام الحسين ولا جزع لها ما لها من بهاء الدم المياس بالحب والصلوات ولو شاءت لنهرت كل ينابيع الأرض وأتمت بقية الكلمة فاجتلى جمالها العارفون فما أخطأوا مرماها وهواها والبطولات وحدها تتقدم على كل ما علق بها من صور هي ذي نوارة من شرفة الأنبياء وليس من لغة تليق بمعنى الحسين سوى لغة الاحتجاج ضد فراعنة الدين وفراعنة المال وفراعنة السياسة ويا لها هذه المضيئة تتسع من حيث هي طريقة خاصة للتفكير المقاوم بكل فدائي مشى على الأسلاك الشائكة وقبض بكلتا يديه على جمرة الحق رافضآ ذبح القيم ومداها في كل فدائية تستنهض من أغاليقنا فصاحة الغضب ..
وآراني يا الله أساير أحزاني في يوم العاشر من المحرم
كلما عاودتني فكرة المنتهى وضعت يدي على بدء سماوات المبتدأ .
وكلما انسدل الستار على فاجعة الروح تحيرت من عمق قلبي وفؤادي .
أهكذا بيننا يا سيد الجنة يكون الختام وأنت مسك الحقيقة ولم تزل كربلاء غريبتك المفردة بين يديك ضاربة في حياتنا عند جذورها وعند كل كريهة أو صدام .
تعاقبت عليها القرون وما فتئت في كل عام تغسل عن قلوبنا غبار الكرب والذل والنسيان وتضيف إلينا من جديد معناها عناق التداخل الرباني بين يوم الإمام الحسين ويوم الخلاص .
أوليس يوم الخلاص هو الفصل الأخير من ملاءة كربلاء .
وكذلك تمتد مفرداتها المثيرة لجدل الموت والحرية .
فلا يقوى على طرائق تركيبها إلا روح سرى من قلب شاهد أو شهيد ولم يستطع أحد على مر الزمان استخراج مشتقاتها إلا من عيون زينب غب الشفق .
فإذا بها تلك التي لم تكسر مطارحها من جيل إلى جيل تراود الأمم وتعتلي كل المرتفعات واضحة الرؤية واليقين بكل دلالات الحسبن في الإسم والمعنى الجلي برمزيات المحراب والمقاومة حتى تشرق الأرض بنور ربها وينزل السلام .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى