الإمام الحسين (عليه السلام):
مُلهِم العصور والأزمان والحضارات!
خليل إسماعيل رمال
قلوبنا تشرئب إليك وألسنتنا تلهج بإسمك وعقولنا تسمو بذكراك ودموعنا تسيل مدراراً كالودق لا ينضب حُباً لك وحزناً عليك يا أبا عبدالله، يا غريب كربلاء ويا فلذة أعظم خلق الله أجمعين، خاتم النبيين وحبيب رب العالمين أبا القاسم محمد (صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم).
السلام عليك سيدي يا أبا عبدلله الحسين وعلى آل بيتك وعلى أصحابك وعلى أنصارك، وعظَّم الله لنا الأجر بمصابك المبرح الأليم الذي إفتديت من خلاله دين محمَّد الأمين صلى الله عليه وآله، وأشْعَلْتَ ثورةً دائمةً لا تهدأ ولا تستكين، وجاهدت في سبيل إحقاق الحق وإيصاله إلى مبتغاه وتخليص الدين الإسلامي العظيم من براثن الردة والظلامية والجاهلية والمَلَكية الوراثية والشجرة الملعونة في الإسلام والبذرة النجسة التي أرادت أن تلعب بالمُلك فلم تؤمِن بالله ولا لرسوله ولا بوحيه.
إنَّ في قلوب الموالين لأهل البيت نار إيمانٍ متوقدة وحرارة لا تنطفيء وشُعلة لا تخبو. فعدا عن “ثورة التوابين” وثورة “المختار الثقفي”، رضوان الله عليه، وثورة زيد بن علي وغيرها من الإنتفاضات والثورات ضد حكم بني أمية المغتصِب المجرم، امتدت ثورة الإمام الحسين إلى كل العصور فكان، عليه السلام، نعمةً للبشرية جمعاء.
مَنْ مِنَّا لا يذكر كيف استعرَّتْ الثورة ضد العدو الصهيوني عام ١٩٨٣ بعد إحتلال إسرائيل للجنوب عندما تم إحياء مراسيم عاشوراء في مدينة النبطية وحاول جيب عسكري إسرائيلي تدنيس المناسبة بوجوده وسط الجموع الحسينية؟ لقد لقَّن الجنوبيون أنصار الحسين، إسرائيل درساً بليغاً وطردوا جنودها من المدينة في إنتفاضة حيدرية شعبية عارمة استمرت حتى دُحِر الغزاة من أرضنا الطاهرة، وجعلت جنود العدو في النبطية يومها يقيمون حواجز بحثاً عن المُحرِّض الأساسي … حيدر!
إلا أن الإمام الحسين ليس للشيعة فحسب أو لفئةٍ دون أخرى، كما أنه ليس ضد إسرائيل فقط. أنه قيمةٌ كونية شاملة وليست إسلامية محدودة بالزمان والمكان. ذلك أن التشيع، كما قال الإمام القائد المُصلِح المتنوِّر السيد موسى الصدر رد الله غربته ورفيقيه العزيزين، ليس مذهباً في الإسلام بل هو مدرسة وحركة فكرية نبعية إرشادية نورانية متحركة في التاريخ وعلى إمتداد الزمان والمكان ومرتبطة بالسماء. إنها حركة رفض الظلم ولوكان شيعياً!
والإمام الحسين هو بمثابة بركان للحياة الإنسانية. هو الشمس التي تحيي نبات إرادة الثوار. به تتجدد التربة المجتمعية وتتغربل وتتطهر من الزوان والشوائب وهذا البركان الهادر هو متنفس البشرية الذي يمنعها من الإحتقان والإنفجار. البركان الحسيني هذا ينفض الأرض كل عامٍ حتى لا تصبح أرضاً قاحلةً وبلقعاً يابساً معدومة الخير والحياة. الإمام الحسين (عليه السلام) هو صنو الإستقامة الإنسانية الطيبة التي جُبلت مع الإنسان بالفطرة والسجية، وتوأم النزعة الإيثارية الخُلُقية فإذا نما هذا الجانب كان المرء من الفائزين والعكس صحيح. ذلك أن غرسة آل بيت محمد عليهم السلام موجودة في نفس كل إنسان وهي بمثابة مفاعل نووي من النور كأنه كوكبٌ دريٌ يوقد من شجرةٍ مباركة، والشقي الشقي هو من أطفأ هذا المفاعل النووي الروحي بإرادته والرابح الفعلي هو من أضرم نار هذا النور الطاهر. الإمام الحسين (عليه السلام) هو دليل هذا النور وعينه. لهذا السبب لا يعرف التكفيريون الخوارج وافرازاتهم الشاذة من الدواعش وطالبان وبوكو حرام وغيرهم، نور الحسين الذي هو من نور جده الأعظم.
على مر الزمن إحتاجت حركة التاريخ إلى من يسعفها بالنجده من السقوط المريع في براثن الحاضر الجغرافي والآنية الجامدة، فجاء بعض الشخصيات والقادة للنجدة لكن عصورهم انتهت بموتهم كما كانت هناك حضارات سادت ثم بادت. أما الإمام الحسين فإنه بقي رجل كل العصور والحضارات ومثالاً للتضحية والوفاء والتفاني والأخلاق والقيم والصبر والعطاء والبسالة والبطولة والأدب الرفيع والعفو والرحمة. لقد كان قربان الإسلام المحمدي الأصيل.
قال لي أحدهم لماذا البكاء على الحسين بعد كل هذه السنوات فالرجل مات رحمه الله فاتركوه بسلام!
ما أغرب هذا المنطق الأعوج!
إننا نبكي الحسين لأنه لم يمت بحادث، ودموعنا التي تسيل بكل فخرٍ وإعتزاز من قلوبنا قبل مآقينا هي مفتاح العاطفة المتجددة والمشاعر اللاهبة التي تُشْعِر الإنسان بتمايزه عن باقي المخلوقات فتجيش في صدره الأحاسيس والرحمة والآدمية. وعلى سبيل المثال أنظر إلى الشارع العربي الخامل المستكين الخانع أمام حكامه الموبقين، كيف توقفت اليوم أحاسيسه وتجمد تعاطفه مع قضية العرب الأولى ومع أطفال فلسطين واليمن وسوريا والبحرين ولبنان وباقي المدنيين العزل ولم يعد يذرف دمعةً واحدةً كما كان يفعل من قبل، أيام الأصالة والمروءه والنخوة العربية. لم تعد تتحرك ضمائر هؤلاء الناس أمام أنهار الدماء والأهوال التي ترتكبها إسرائيل والتكفيريين ضد البشر والحجر، ويكاد عنفوانهم وشرفهم وكرامتهم يتحرك من أجل”لعبة” كرة قدم. فمن يهتم اليوم بأطفال العرب وهموم شعوبنا وبالممانعة والصمود والتصدي إلا البكائين من أبناء الحسين الذين يحملون ذاك العطف والمفاعل النووي الروحي النوراني في قلوبهم والمُقتبَس من نور النبي وعترته الطاهرة؟
نقسم بالله العظيم بأن نحفظ هبة الله ونعمته التحررية من ربق المادة والجمود وأن نحافظ على ذكرى الحسين، بركان البشرية المنير إبن البشير النذير، وأن نبقى نبكي ونندب ونلطم على الإمام الحسين إلى أبد الآبدين. إنه لقسمٌ عظيم.