لا للفتنه نعم للحوار وبناء الدولة .
****
في ٢٠ نيسان من عام ١٩٧٥، وضمن مقال تحت عنوان ” مجزرة عين الرمانة ، جذورها العميقة والدروس منها ” كتبت :
” يعيش النظام اللبناني أزمة سياسية _ اجتماعية _ بنيوية ، كامنة على الدوام ، لا تلبث ان تنفجر وتولد عنفا عند اي خلل في التوازنات القائمة، وعند أي صدام يحصل…..”
وبالفعل، نتيجة الخلل الذي لحق بالتوازنات في تلك المرحلة، لعدة اسباب ومتغيرات محلية و تدخلات اقليمية ودولية ، بشتى الصور والأساليب ، انفجر الوضع ، وشهد لبنان مأساة حرب اهلية طائفية قذرة ، استمرت خمسة عشر سنة، كان لها جملة تداعيات لا زلنا نعيش مرارتها لغاية اليوم : قهقرت الوعي، فتكت بالبشر والحجر، مزقت اوصال المجتمع، سحقت كل امال التغيير …وانتجت النظام الحالي والمنظومة الحاكمة بكل مساوئها وعبثها وفسادها ونهبها للبلاد وتبعيتها للخارج.
هذه الازمة الكامنة ، الناتجة اصلا” عن بنية النظام اللبناني الهشة المرتكزة على توازانات طائفية ، والتي حالت دون بناء دولة وطنية موحدة ، دولة ينتمي اليها مواطنون من مختلف المناطق والأطياف ، لا رعايا طوائف وملل ، ولا ميلشيات طائفية تسفك دماء البشر وتفتك بكل مقومات الدولة وتنهب وتخضع وتبتز …ميليشيات سرعان ما تتحرك وتنزل الى الشارع وتوتر الاوضاع عند اي حدث ،مهما كان بسيطا وعاديا، وتدفع ،بوسيلة او بإخرى ، نحو فتنة داخلية عميقة ومتشعبة تكاد ان تتحول الى حرب أهلية عبثية.
هذه الازمة التاريخية، وتلك المرتكزات الطائفية البغيضة ،كانت ولا تزال ، السبب المباشر وراء كل ما حصل ويحصل من صراعات دموية حادة على الاراضي اللبنانية. وما حصل في الاونة الأخيرة ، سواء في القرنة السوداء، او في مخيم عين الحلوة، او في الكحالة…هو نتيجة حتمية لهذه الازمة ولتلك المرتكزات، رغم التدخلات والمخططات الخارجية، اقليميا ودوليا،واستغلال الخارج للواقع الداخلي المزري والموتور والمخيف ، والعمل على تأجيجة من جهة ، ودعم فئات محلية على فئات أخرى، وتمرير مشاريع سياسية واقتصادية تدميرية مشبوهة باتت معروفة ، من جهة اخرى.
لم يكن للحادث العادي الذي حصل على طريق الكحالة اثر انقلاب شاحنة على احدى منعطفات المنطقة ، لم يكن له أن يدفع الى التوتر والعنف واطلاق النار والقتل وردات الفعل …..لو أننا كنا نعيش في وطن، وضمن دولة تحمي هذا الوطن وترعى شعبه وتتدخل لحل مختلف المشاكل قبل ان تتفاقم ، ولو كنا قد امتلكنا وعيا في بيوتنا ومجتمعاتنا ومراكزنا الثقافية والاجتماعية والمدارس الوطنية والجامعة اللبنانية وأحزابنا السياسية وغير ذلك من مؤسسات وامكنة ، يفترض بها ان تلعب دورا توعويا مختلفا ، وتبني الانسان المتكامل مع غيره من ابناء وطنة، لا المتعصب والجاهز في أي لحظة للتوتر والانفعال والاقدام على تصرفات لا تليق بالمواطنين.
ولأننا غير ذلك تماما”, ولأننا شراذم منقسمة الى ملل وطوائف وكتل بشرية حاقدة ومتصارعة تأتمر بأغلبيتها من الخارح،كتل تعبر تعبيرا واضحا عن حالة الانقسام العميق الجذور في بنى المجتمع …لأننا هكذا نحن منذ قيام دولة لبنان الكبير عام ١٩٢٠ ، حصل ما حصل.
فلو كانت الشاحنة التي انقلبت تعود الى طائفة المنطقة التي وقعت فيها ، او لحزب او تكتل سياسي يمثل،بوهم طبعا، طائفة تلك المنطقة، لما استنفر اهالي المنطقة ولا المسلحون التابعين لأحزابها طائفيا، ولما قرعت اجراس الكنائس ولما قطعت الطريق الدولية وتوتر الوضع وحصلت الكارثه، مما بات يهدد بالانفجار العام….بل كان اقدم الاهالي لنجدة الشاحنة وانقاذ سائقها واجراء الاتصالات لرفعها عن الطريق، ومر الحادث بهدوء دون ان يعرف به ويروج له حتى هذا الاعلام العبثي الرخيص المشبوه ، المنتشر بكثافة على الساحة اللبنانية.
ولو كنا شعبا واحدا ، وننتمي الى وطن واحد ودولة واحدة، وتربينا في مدرسة وطنية واحدة، كان من المفترض على أهالي منطقة الكحالة ان يهبوا لنجدة الشاحنة ، بغض النظر عن حمولتها وما فيها ولمن هي …وخاصة ان هذه الشاحنة تعود الى المقاومة التي حررت لبنان من رجس الاحتلال الصهيوني ، وحمت ،ولا تزال، لبنان من اي عدوان خارجي، ووضعت حدا لتعنت العدو وجبروته ولتهديداته المتكررة لنا ولبلدنا ومؤسساتنا وحاضرنا ومستقبلنا. ولكن ، لأننا غير ذلك، ولاننا موتورون على الدوام، ومنقسمون على ذواتنا ، وننظر الى الأخر بعين الشك والريبة والنكران …ولاننا لغاية اللحظة لن نتمكن من امتلاك وعي أخر ، وعي وطني جامع، وان نحترم الاخر الى اي فئة انتمى، ونهب لنجدة الأخرين في حال تعرضهم لأي سوء ،لأي منطقة او طائفة او ملة انتموا…ولأننا نفتقر الى دولة وطنية والى نظام وطني والى حس وطني…فاننا سنبقى نتعرض لحوادث مشابهه او اكثر حدة، وستبقى احتمالات الاندفاع نحو الفتنة والى الحرب الهمجية القذرة ، كامنة ايضا على الدوام.
لقد أن الأوان ان نترفع عن ذواتنا الخاصة الضيقة الأفق، وان نعي اننا بحاجة الى وطن والى دولة ، وان الوطن يبقى للجميع ، منصهرين في مؤسساته الوطنية، وان هذه المؤسسات والشوارع والطرقات والارض والمياه والهواء وكل ما هو في سماء الوطن وداخله وباطنه ،ملك لكل ابنائه المواطنين، وليسوا حصصا وكانتونات طائفية. وكفانا تهديدات ووعود وتحذيرات وانقسامات وتشرذم…..وان الدولة، عندما توجد الدولة ، تبقى هي الجهة المعنية الوحيدة بأيجاد حلول لمختلف الاشكاليات والحوادث التي قد تحصل بشكل طبيعي في اي بلد طبيعي…وهي المسؤولة عن امن المواطنين والسهر على رعايتهم وتوحيد جهودهم في مواجهة المخاطر الخارجية. وستبقى المقاومة هي الطريق والخيار الوطني امام كل التهديدات والسياسات العدوانية ، وما اكثرها.
لقد أن الاوان ان نخرج من اطرنا الضيقة المغلقة، وان نعي ان البلد ، كل البلد، بخطر ، وبحالة انهيار شامل، ويتعرض لحصار خارجي لا يفرق بين فئة واخرى، حصار مذل خبيث ومميت ، والى تهديدات عدوانية شرسة …وان ضرورة الدفاع عن هذا البلد واهله ومؤسساته يتطلب وحدة ابنائه ووحدة الانتماء والموقف والتصرف.
كما ، ان الاوان لاعلامنا ، وما اكثر انتشاره وتعدده، ان يكون اكثر التزاما وحرصا على المصالح الوطنية ، وان يخرج عن تبعيته المطلقة للخارج، وان يكون اعلاما راقيا وطنيا مسؤولا ، يدرك مخاطر انزلاقاته وفتح ابواقه بالشكل والصيغ والأهداف التي هو عليها الان، وكفى ان يكون اعلامنا اعلام فتنة وتحريض وانبطاح امام من يدفع اكثر.
وان على كل الوطنيين الشرفاء، المنتشرين على مساحة لبنان ، ان يتواصلوا ويتحاوروا ويتوحدوا. ، وان يصلوا الى اطلاق مشروع وطني موحد يضع حدا لحالة الانهيار القائمة، ويوقف النزيف الدامي في جسم البلد، ويعملوا ، اليوم قبل الغد، بهدوء ، لاعادة بناء الدولة الوطنية الواحدة والموحدة، لا دولة الكانتونات والفيداليات . وان عملهم هذا هو عمل تاريخي طويل …..وان لم نقم بذلك سيلعننا التاريخ .
أسد زين غندور