كتب الكتلاوي جيرار ياغي عن العميد ريمون اده كلام لاهالي جبيل وكل لبنان
في الذكرى ال ٢٤ لغياب ضمير لبنان العميد ريمون اده، كتب مدير مكتب النائب زياد الحواط جيرار – جونيور ياغي :
لا تكتب قصة الجمهورية اللبنانية الأولى من دون فصل عاصف ناصع عنوانه ريمون اده. فذاكرة العميد سجل لجميع صور لبنان الكبير من الإنتداب فالإستقلال، إلى الثورات والحروب.
الطفل الذي ولد في نهاية العهد العثماني سمي ريمون تيمناً بالرئيس الفرنسي ريمون بوانكاريه تعبيراً عن تعلق الوالد اميل اده بفرنسا التي عاد من المنفى مع وصول طلائع عسكر انتدابها الى لبنان. ومن والده وقدوته، المحامي والرئيس والزعيم وعضو الوفدين الأول والثالث الى مؤتمر الصلح في فرنسا حيث رسمت حدود الكيان تعلم باكراً خلفيات مشكلة الوطن الصغير مع المطامح السورية الوحدوية ومطامع إسرائيل المائية.
عن والده الرئيس الذي دلف الى الضريح والتاريخ سنة ١٩٤٩ ، ورث ريمون اده الكتلة الوطنية والزعامة وكل خصال النزاهة والعدالة والعناد. لكنه رفض البقاء ظل طيف ابيه. فمنذ انتخابه نائباً للمرة الأولى سنة ١٩٥٣ شكل مع شقيقه بيار ثنائياً مميزاً في فضاء السياسة اللبنانية. كان يهوى الإقامة في عين العاصفة، ويستريح في مدى الحرية.
وكبرلماني وديمقراطي من الوريد الى الوريد ادخل تقاليد جديدة على أساليب التصريح والتعبير والمناقشة والمحاسبة وطعم القاموس الصحافي والسياسي بتعابير أضحت عنواين المراحل كالدكتيلو، والتدويل، والأردنة، والبلقنة والقبرصة وغيرها ….
ريمون اده النائب المعارض والمشاكس والمجادل وصاحب ۱۷۷۸ مداخلة برلمانية بين ۱۹5۳ و ۱۹۹۲ كان أيضاً مشرّعاً ومقداماً، حفظ اللبنانيون دوره الطليعي في قوانين السرية المصرفية وإعدام القاتل، والإثراء غير المشروع، والحساب المشترك، والنقد والتسليف، وكل منظومة قوانين الحريات الديمقراطية الصادرة عامي ۱۹۷۰ و ۱۹۷۱ .
متعباً كان ريمون اده لحلفائه لأنه لم يقبل أن يكون أسيرهم، ومتعباً كان لخصومه لقدرته على فضحهم وإحراجهم والإلتفاف عليهم. لذلك بقي العميد العنيد حراً طليقاً يرقص في مساحات المعارضة الرحبة من دون قيد أو شرط
لم يستقر في الحكومة الرباعية الأولى سنة ١٩٥٨ ، سوى أشهر معدودة اذ انسحب متذرعاً بممارسات المخابرات وتهاون الرئيس فؤاد شهاب مع المكتب الثاني. وفي عهد الرئيس شارل حلو سنة ١٩٦٨ تسبب بالإطاحة بالحكومة الرباعية الثانية على خلفية الخلاف والإنقسام حول العمل الفدائي الفلسطيني والرد على العدوان الإسرائيلي على مطار بيروت.
أما قصته مع الحلف الثلاثي فتخطت حساسيته تجاه الشيخ بيار الجميل، اذ كانت وظيفة الحلف القضاء على اثنى عشر سنة شهابية، وقد تحققت بإنتخاب الرئيس سليمان فرنجية.
قاسياً كان ريمون اده في ممارسة الحكم وإطلاق الأحكام بعد الرئيس بشارة الخوري الذي لم يغفر له إضطهاد والده، خصص معظم معاركه السياسية المعارضة الرئيس فؤاد شهاب ومخاصمة الشيخ بيار الجميل والزعماء الموارنة.
أخذ على اللواء شهاب عسكرة الدولة وتسلّط الشعبة الثانية على الرقاب وممارسة الرقابة على السياسيين والصحافيين والمس بالحريات وإسقاطه في الإنتخابات النيابية سنة ١٩٦٤ قبل أن يعود بإنتخابات فرعية بعد سنة، ساوى العميد بين الشهابية والشيوعية والصهيونية وإعتبرها ثلاثة أخطار تهدد لبنان.
أما مع الشيخ بيار فقصة طويلة لم ينسى أي من فصولها التي بدأت عندما إنحاز الجميل ومنظمته الى الشيخ بشارة الخوري في معركة الإستقلال. مبتعداً عن اميل اده، مروراً بتغطيته عهد فؤاد شهاب وصولاً إلى الإفتراق في الخيارات الكبرى من إتفاق القاهرة الى الحرب التي إتهم الكتائب بتأجيجها مسلطاً ضوءاً كاشفاً على ممارساتها.
إعتباراً من العام ١٩٦٤ إستفاقت هواجسه القديمة حول الجنوب ومياه الحاصباني والوزاني بعد تصدي إسرائيل لقرار الدول العربية تحويل روافد نهر الأردن ذهب إلى الرئيس شارل حلو مقترحاً طلب قوات دولية لحماية الحدود. وعلا صوته بعد انطلاق العمل الفدائي الفلسطيني معارضاً بشدة اتفاق القاهرة الذي اعتبره فضيحة لا مثيل لها في التاريخ لأنه سمح بإقتطاع جزء من لبنان وسلمه لجماعة مسلحة غير لبنانية.
راح وحيداً يجادل ويقاوم ويجول مع الموفدين الأمريكيين والصحافيين في قرى وبلدات الجنوب منبهاً ومحذراً. وعندما لاح شبح الحرب امامه بعد حوادث لبنان سنة ۱۹۷۳ وغزو قبرص وانقسامها سنة ١٩٧٤ ، دفن الحلف الثلاثي الماروني وسعى الى حلف آخر مع رشيد كرامي وصائب سلام كي لا تنقسم البلاد طائفياً على إيقاع المؤامرة الآتية.
مع الرصاصات الأولى سنة ١٩٧٥ ، رفض الإنخراط في الحرب والإنسياق إلى لعبة السلاح.
رعی میثاق عنايا بين المسلمين والمسيحيين لإبعاد جبيل عن الفرز الطائفي وعارض التقسيم لأن لبنان المسيحي سيكون إسرائيل ثانية.
كان مقتنعاً أن واشنطن وتل أبيب تسعيان الى تقديم لبنان هدية الى سوريا وتوطين ٤٠٠ ألف فلسطيني. لذلك شكل في الحادي عشر من تموز جبهة الإتحاد الوطني التي اذاعت وثيقة تؤكد على رفض تقسيم لبنان والعمل في سبيل انسحاب الجيش السوري.
لم يسمح ريمون اده لطموحه الرئاسي ان يغتال قدرته على الغضب والرفض والإعتراض، وإذا كان ترشحه مبدئيا ضد فؤاد شهاب سنة ١٩٥٨، وحالت بينه وبين الرئاسة سنة ۱٩٧٠ صراعات الأقطاب الموارنة، فإن رفضه الموافقة على الرغبة الأمريكية بدخول الجيش السوري سنة ١٩٧٦ حرمه من شرف المهمة الأسمى، وظل يردد انه وجد في واشنطن أن نفط الخليج أهم من تفاح لبنان.
أما في المحطات الرئاسية اللاحقة فتصرف على أساس أن طالب الولاية لا يُولَّى، فكان يزيد شروطه لأنه لا يطلب الرئاسة أو لأنه كان يعرف انها لن تصل اليه
لم يكن ريمون اده من حزب السلامة، فلم يستسغ العيش المهادن والإقامة في مواقع المتفرجين، لذلك دفع الثمن 7 محاولات إغتيال أجبرته الأخيرة على مغادرة لبنان في ٢٢ كانون الأول 1976 في رحلة مؤقتة طالت ٢٤ سنة انتهت بعودة في كفن.
بقي ريمون اده مصاباً بنار تقيم في داخله ولا تنام. ابتعد الى باريس ولم يعتزل. لازم فرنسا وبقيت عينه على لبنان. سكن الفندق الباريسي وظل مسكوناً بجبيل وبيروت والصنائع والبقاع والجنوب والشمال إخلاصاً منه للعنة القدر والضمير.
حول جناحه في الفندق الى وطن صغير حيث تحلق حوله لبنانيون حملوا الى الغربة حقيبة حنين الى ماضي بلد لن يعود ضاق الجناح الذي علق على شرفته العلم وعلى جداره خريطة لبنان وصورة مرفاً جبيل العتيق بقصاصات الصحف والوثائق وملفات السياسيين وتصاريحهم بقي مواظباً على المعارضة، وعند صدور القرار ٤٢٥ ونشر قوات الطوارئ في الجنوب سنة ۱۹۷۸ ، إعتبر أن بعض من حقه قد وصل. ولكن بعد توسع الإحتلال سنة ١٩٨٢ ، أعلن انه مع المقاومة الوطنية رافضاً اتفاق ۱۷ أيار ۱۹۸۳ ومطالباً بإحلال قوات دولية مكان الجيش السوري.
رفض البحث في اي اصلاح او دستور جديد ما دامت أرض الوطن تحت الإحتلال لذلك لم يشارك في لقاءات الحوار في الخارج.
في الفصل الأخير من مشواره مع الحياة، ظل ريمون اده صامداً عند آخر معاقل الأمل في قلب جسد بدأ يرهقه مرض خبيث، فيما بقيت روحه متوثبة كراية نضال فوق قمة التحدي. شاهد لبنانه وقد رحل قبله وتركه رفاق الرحلة القاسية وحيداً في غربته بعدما تناحرو وناحرو وانتحروا. لم يهمله وهن المرض اياماً كي يرى تحرير الجنوب الذي كان عنوان نضاله ثم رحيل حافظ الأسد الذي كان سبب تهجيره. لقد أغمض عينيه في العاشر من أيار من العام ۲۰۰۰، قبل خمسة عشر يوماً من انسحاب الجيش الإسرائيلي وقبل شهر من موت حافظ الأسد.
عاش ريمون اده أسير فكرة عن وطن اراده ولم يكتمل ومات بعيداً محروماً من وطن عرفه وافتقده من فرط ما تغير. وفي الحالتين بقي ريمون اده عميداً عنيداً مثقلاً بالتاريخ الذي حمل، يكفيه أن الحرية هي راية الحياة التي رفع.