كيف نفكر بصوت عالٍ؟
إن تداول المفاهيم والأفكار والمعتقدات قبل عرضها على طاولة البحث والتَّقصي، والنقض، وقبل تمحيص أدلتها ودلالاتها، عرّض البشرية عبر التاريخ إلى كثير من الخسائر والتداعيات السلبية. فالتجربة التي يتعرض لها الإنسان نتيجة الصراعات السياسية والاجتماعية، تدفعه في كثير من الأحيان إلى محاولة معالجة واقعه بتقديم رؤى وأفكار نابعة من تجربته الشخصية أو الاجتماعية، بالتالي قد تخضع هذه المعالجات لتحيزات وقبليات معرفية، تُخرج المعالجات أو ما ينتج من معارف عن الموضوعية، وتُخضعها لاستمزاجات شخصية قد ينبني عليها لاحقا تفاسير ومعتقدات تفسد مسار البشرية اللاحق أخلاقيا واعتقاديا وحتى روحيا. ولعل التجربة الغربية مثال واضح على ذلك، فمن ديكارت إلى كانت مثلا ..إلى غيرهم كان المسار محاولة معرفية لمواجهة التعسف الناتج عن تحالف السلطة الدنيوية مع السلطة الدينية، وما نتج عن هذا التعسف من قهر للإنسان ومعاناة عاشتها أوروبا شطراً طويلاً من الزمن، ولكن هذه المحاولات التي قد توصف بأنها ردود أفعال، وأنها نتاج احتكاك الفيلسوف والمفكر مع واقعه المحيط، وعدم استطاعته الانفصال عنه، نتج عنها منظومة فكرية ومعارف أسست فيما بعد لاستبعاد الله عن الواقع البشري، مع عدم إنكار وجوده ابتداء، لكن كمحصلة لهذه البداية نتج لدينا ظاهرة الالحاد من جهة، وظواهر أخرى كالفردانية المتطرفة، والأنانية المفرطة، التي توالد عنها مجموعة تشريعات وقوانين تم فرض تعميمها على البشرية، فكان أن تحملت البشرية جمعاء حصيلة هذه الأفكار التي قد تكون طرحت بحسن نية لمعالجة الواقع ابتداء، لكن حسن النية وحده غير كافٍ لفهم تداعيات الأفكار و المعتقدات، وتداعيات دلالاتها على الأجيال، وهو ما يدفعنا للاقرار بعدم شمولية وإحاطة العقل الانساني وقصوره عن فهم كل ما هو في مصلحة الإنسان وفي ضرره، والدفع نحو التواضع المعرفي بل القصور المعرفي للانسان، وحاجته الحقيقية للتدخل الالهي في وضع قواعد معيارية عامة ثابته، تشكل مرجعية معرفية تضبط مسار العقل في حال خروجه عن تلك القواعد، دون إلغاء لدور عقل الإنسان وإبداعاته، لكن وفق ضوابط ومعايير تمنع الضرر الذي قد يلحق بالبشرية في حال الخروج عن تلك الضوابط. وكما يقول وليم كليفورد أن اعتقاد الانسان الفرد على أيّ حال ليس أمرا خاصا يهمه وحده. بل إن حياتنا مُسَيّرة من قِبَل ذلك التصوّر الكُلّي لسلسلة الأحداث التي تشكّلت بواسطة المجتمع لأهداف اجتماعية. إن ألفاظنا، وعباراتنا، وقوالبنا، وعمليّاتنا، وطريقة تفكيرنا هي مُلكٌ عام ( في حال تم التعبير عنها في الواقع الخارجي والترويج لها، أي في حال خرجت من الذهن إلى الخارج)، تم تطريزه وضبطه من عصر إلى عصر، وكأنه ملك متوارث ترثه الأجيال المتعاقبة كوديعة ثمينة ووثيقة مقدّسة يسلمه كل جيل لكن يليه، ليس غير متغير، بل موسع ومُنَقّى، مع بعض العلامات الواضحة للعمل اليدوي المُتقَن الذي جرى عليه. في باطن هذا، خيرا كان ام شرا، كل اعتقاد لكل رجل يُوَجِّه خطابا لرفاقه يساهم في حبك عقدة في هذا النسيج. إنها ميزة مخيفة، ومسئولية ضخمة، علينا أن نستغلها لخلق العالم الذي سيعيش فيه الأجيال القادمة. ( وليم كليفورد/ أخلاقيات الاعتقاد).
فأهمية أي اعتقاد والتعبير عنه تكمن في الدور الوظيفي الذي يمكن أن يلعبه هذا الاعتقاد عند اصدار القرارات، أو على باقي الاعتقادات. لذا لا يمكننا التعامل بلا مبالاة تجاه أي اعتقاد، كما لا يمكننا أن نكون غير مبالين اتجاه ما نعبر عنه من أفكار ومعتقدات، لأن مصير البشرية مرهون بترشيد اعتقادات البشر.
لذلك نجد ان الاسلام لم يكره الانسان على معتقداته الخاصة القلبية والعقلية التي لم تغادر ذهنه وعقله وهذا قوله تعالى في سورة البقرة، آية 256،
لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ،
لكنه شدد في موضوع الترويج لتلك المعتقدات والأفكار لتكون ضمن ضوابط محددة ، وضمن مرجعيات معرفية معيارية،لذلك قال تعالى في سورة ق، آية 18
ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ
هذه المرجعية المعيارية تُقَوّم وتُرَشّد الخطاب والأفكار والمعتقدات من خلال الدليل والبرهان، وكما جاء في سورة الأنبياء، آية 24 أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَ ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ.
فمسئولية التحقق من الاعتقاد والأفكار والمعارف مسألة واجبة أخلاقيا على كل إنسان عاقل، ما استطاع إلى ذلك وفق وسعه وطاقته وقابليته. هذا فضلا عن خلط حقول المعرفة بطريقة مخلة لكشف الحقيقة، فالتحليل السياسي يجب أن يخضع لادوات الواقع ومعطياته من جهة بشكل موضوعي، وللضوابط الرصينة في تقييم هذا الواقع والبناء على الشيء مقتضاه من جهة أخرى، فلا يمكن أدلجة التحليلات السياسية لأنها تريح صاحبها وفق عقيدته واطمئنانه التسالمي خوفا من ان يهز هذا الاطمئنان، فله حرية ذلك كشخص، ولكن ما أن يرغب في التعبير هن هذا التحليل بشكل علني، فهو ملزم بالمنهج والضبط المنهجي، حتى لو كان ما سيكشف التحليل وفق معطيات الواقع والميدان من حقيقة، مخالفا لرغباته وميوله الخاصة.
فالفكرة تكون ملك الإنسان وله حرية التفكير فيها، عندما لا تخرج عن ذاته، ولكن ما أن يعبر عنها حتى تكون أصداءها ملأت كل الفضاءات المحيطة، وآثارها تداعت سلبا أو إيجابا.
لذلك الدقة والموضوعية والانصاف وعدم خلط الحقول، والدليل والبرهان وجمع المعلومات واستقراء الواقع من لوازم التحليل الذي يريد الحقيقة، ليبني على الشيء مقتضاه، فلا يقع فريسة الافراط والتفريط، ولا يقع فريسة التقديس ولا التدنيس.
والله أعلم
إيمان شمس الدين