كلمة العلّامة الشيخ حسين أحمد شحادة في الدورة الأولى لذكرى الراحل سماحة آية الله الشيخ عفيف النابلسي (قدس سره)
—
لا يمكن تجريد العلم من رسالته، ولا يمكن تفريغ الرسالة الإسلامية السمحة من مقاصدها، فقولك: هذا عالم، وهذا فقيه مجتهد، يستدعي استحضار الوعي التطبيقي لهذا العلم وهذا الاجتهاد في أرض الواقع؛ ويترتب على ذلك التمييز والتفرقة بين العالم القرام العارف؛ بمعنى أن يكون القيام لله بحقوقه، وبين عالم أعمى لا يريد أن يبصر موجبات المرادفة بين الإسلام والقيام.
كذلك، يأتي الحديث عن آثار العلّامة المقاوم الشيخ عفيف النابلسي؛ باعتبارها نموذجاً للتطابق الكامل بين الجانب العلمي من شخصيته والجانب الجهادي من سيرته ومواقفه.
تعود بي الذاكرة إلى مدينة العلم؛ إلى النجف الأشرف، وإلى خمسين عاماً من أثقال التحديات، وقد كانت وفية ومخلصة لنهج أئمة أهل البيت (عليهم السلام) جهاداً في سبيل الله بالكلمة، وجهاداً في سبيل الله بالموقف والقلم.
كنا غرباء، وكانت غربتنا في المشهد الإسلامي الغائم متلامحة كنقاط الضوء وسط الظلام، وأذكر أن آذان المسجد الأقصى كان إذا ارتفع من القدس يتصادى في الأزهر والنجف، ومنهما يمتد إلى مآذن فاس والقيروان ومآذن القسطنطينية ومآذن وهران، كان الآذان الواحد في يواقيته الضارعة الخاشعة يثير في نفوسنا الشجن ويهزّ الوجدان والضمير بأسئلة النهوض وأسئلة الصحوة الواعدة بغد أجمل وفجر قريب، غير أنّ المشكلة الأعوص كانت تحاصرنا بذلك التداخل التاريخي المعقد بين أزمات الشعوب المقهورة واستبداد الأنظمة التي حفرت فجوات عميقة بين ثقافة السلطة وثقافة الأمة، وكنا كلما ضاقت من حولنا السبل نلوذ بالقرآن ونرتل {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} . كان الشيخ عفيف (رضوان الله عليه) يرتلها ويحسن التدبر بمعانيها؛ باجتراح التفاؤل من قاع القنوط.
وقد برزت في العالم العربي والإسلامي اتجاهات فكرية وعقدية؛ اتجاه بالغ بدعوته إلى حماية الذات المذهبية، فانصرف عن قضايانا الكبرى، واتجاه استعار من محاكاة التجربة المكية جوانب الأسس التي يقوم عليها البنيان الإسلامي، وانصرف هو الآخر عن مواجهة التحديات، واتجاه ثالث قرر أن يخوض معاركه الفكرية والسياسية لمبارزة التحديات التي كانت تحاصر صحوتنا من خارج ومن داخل.
شهد الشيخ (تقدّس اسمه) ما تجانس من هذه الاتجاهات وما تنافر، وانحاز بجميع جوارحه إلى وجوب ترتيب الأولويات، من خلال اهتمامه بسؤالين؛ أحدهما: السؤال عن مشروع الصحوة الإسلامية، ما هو؟ وثانيهما: السؤال عن مرجعية الصحوة، من هي، وكيف تكون في عالم إسلامي يضج بتبايناته واختلافاته في الرؤى المتلاطمة حول مشكلات النهضة؟
فلما انبلج فجر الثورة المباركة بإيران، ورأى الشيخ بأم عينيه كيف تجسّد مشروع الصحوة بجمهورية إسلامية عزيزة ومرجعية عابرة للمذاهب والطوائف رفعت علم فلسطين إلى جانب علم الوحدة، اعتدل الشيخ بعمة الضوء، وقام كما يقوم المولى الفرحان تحت اسم الولي الفقيه، وألقى (رضوان الله عليه) نظره إلى الأفق البعيد؛ إلى أحزان القدس الشريف وقبة الأقصى الحزينة، وقد صارت بعهد الإمام الخميني (قدّس سرّه) أقرب ما تكون إلى تكبيرة صلاته تحت زيتونة لا شرقية ولا غربية، ولمع اسم الشيخ المجاهد كصاحب قضية ورسالة، لا يهدأ ولا ينام، ساهراً على أحلام الأمة وأحلام جهاده، فرأيناه عند كل معترك من معارك الحق والباطل يصدّ الإعلام الأسود والأفكار السوداء التي استهدفت حواضن المقاومة وروافعها، فيحميها الشيخ الثابت بصدره، ويشدّ أزرها بشرايين قلبه، ويصرخ بدهشة عاملية: لماذا يكرهوننا، لماذا يناصبون العداء لجمهورية المشروع الرسالي ومرجعيته، ولماذا يفصلون قضايا الأمة بعضها عن بعض؟ ولطالما كان يسأل عن خلفيات ما يجري في عواصمنا من خطط الفدرلة واللامركزية، ويقول: لماذا يزرعون في أرضنا الطيبة ألغام التقسيم، وألغام الفتن، وألغام الحركات التكفيرية؟ يسأل بشجاعة، وينهض ليسقط الأقنعة عن الوجوه المستعارة، ثم ينادي على منابره كلها بصرخة الكاشف عن الحقيقة: إن أخطر ما في العقيدة السياسية للاحتلال والرامية إلى تهويد المنطقة كحلقة مفصلية من حلقات صهينة العالم أنها قصمت ظهر أمتنا باثنتين؛ واحدة ذهبت إلى تجويف الأمن القومي العربي والإسلامي من دلالته ومعناه، والثانية ذهبت بعيداً بعيداً في تدمير الثقة بين أبناء الأمة الواحدة وبث المخاوف بين مكوناتها على نحو تم فيه استبدال مصطلح -الخطر- من خطر كان مقروناً على الدوام بعدو واحد؛ هو العدو الصهيوني، إلى خطر يتحدث اليوم عن خطر إيران وخطر المقاومة وخطر أبنائها الذين يدافعون عن وحدة الأمة وشرفها وعرضها وحريتها وكرامتها المستباحة من الوريد إلى الوريد.
ومن المفارقات الساخرة، وفي هذا التوقيت بالذات، تتصاعد حملات التشكيك بهوية المقاومة بإسلاميتها ووطنيتها. ذات لقاء بدمشق، قال لي:
لقد أنفقت المليارات من أجل تسفيه أمر المقاومة، وأنفقت المليارات المليارات بلا حساب من أجل تشويه صورتها. لم يعرفوا حجم المقاومة، ولم يعرفوا عظمتها؛ والتي كانت بالأمس هي الوسيلة، ستصبح بعد تفتيت الأوطان وسيطرة نظام التفاهة هي الوسيلة والمرجعية والمشروع في آن تعاهدنا على مقارعة التحدي وتواصينا بالصبر والمجاهرة بالحق، وأهداني قلمه، وقال:
ليتك تكتب شيئاً عن أثر المقاومة في بناء وحدتنا، وأشار إلى تجربة المقاومة في صيدا العزيزة، وفي مسجد الزعتري، وكيف استطاعت المقاومة بنبل رجالها الأبرار أن تمحو الفوارق بين انتماءاتنا المذهبية والطائفية، ليتك يا أبا أحمد، تكتب شيئاً عن أثر المقاومة بإفشال خطط التقسيم وتجزئة الشرق الأوسط إلى دويلات هزيلة ومرهونة لغطرسة الاحتلال.
وصافحته بأنس من يعلم علم اليقين بأن كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين سرقوا أرضنا واغتصبوها هي السفلى، وقلت ما خلاصته:
إن المقاومة التي عاشت بدماء روحية وعقدية إسلامية لا ترى في وحدة لبنان وسيادته واستقلاله إلا صورة كاشفة عن غرسات الإسلام الأولى؛ في التوحيد بوصفه مبعث القيم العليا ومنبعها، فالهوية بمنظار إسلامي تتشكل بخصوبة وحيوية من داخل تقوى الله بالجهاد الأكبر. وبكلمة لكل مرتاب ولمن لا يعلم، فإنّ الهوية بعيون المقاومين لا تصبح ناجزة وكاملة إلا بعد انتصار ثقافة الوحدة وثقافة الحرية وثقافة السلم الأهلي على ثقافة التهويد والهيمنة والاستعباد وتزوير القيم.
ابتسم الشيخ الجليل ومشى، فكانت مشيته آذان، ومجالسه آذان، ونبض قلبه آذان، وعلى وضوح خيوط الشمس الصفراء اطمأنت نفسه العفيفة الطاهرة، واختصر الكلام بأنّ جوهرة المقاومة ودرة تاجها ليست في الوئام بين المشروع الأخلاقي الإيراني والمشروع الوطني المقاوم في لبنان فحسب، بل والوئام أيضاً بين كل أحرار العالم الملتزمين بقدسية الدفاع عن قضايا المفجوعين بحقوقهم في الحرية والأمن والكرامة، وفِي مقدمهم الملتزمين بصدق الدفاع عن قضايا المفجوعين بفلسطين، كل فلسطين؛ وهذا هو معنى محور المقاومة في الدلالة والأبعاد، وغداً سيكتب التاريخ عن محرقة غزّة بأنها كانت محرقة الصمت العربي المتفرج على ضحايانا؛ من الشيوخ والنساء والأطفال، ولكن صلاة المقاومة وسواعدها فتحت أبواب السماء. فاسألوا الله أن يعطيكم ما تشتهون من عزة وكرامة وانتصار أكيد.