في إطار إحياء مراسم عاشوراء استقبلت حسينيّة المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام ببلدة زيتون فتوح كسروان قدس الأباتي طانوس نعمة رئيس دير مار مارون بعنّايا على رأس وفد ضمّ وجوها من عنّايا وجارتها التوأم رأس إسطا الحيدريّة في دلالة واضحة على رسوخ مبادئ الوحدة الوطنيّة العصيّة على مشاريع الفتنة بين صفوفهم رئيس بلديّة عنّايا ومختارها، رحّب إمام بلدة زيتون الشيخ الدكتور محمد أحمد حيدر بالحضور الكرام وأثنى على المواقف الوطنيّة لأعضاء الوفد لا سيّما مواقف قدس الأباتي وذكر ما للمنبر الحسينيّ من فضل في بثّ روح الإخاء الإنساني الرسالي وممّا جاء في كلمته حيث توسّم بقدس الأباتي ذاك الراهب الفاضل في بلدة الراس ببعلبك حين مرّ به موكب السبايا فخاطب قدس الأباتي فيما خاطبه بأبيات قال فيها:
يا راهب الدير كم في الدير من عبرٍ
تطفو دموعا على خدَّي مَنِ اعتبرا
اِبن الفواطم في الدير انبرى عجبًا
رأس الإمام زها في ديركم قمرا
في مذبح الدير لي ذكرى مخلّدةٌ
ثغر الإمام يضوع الذكر فانتثرا
بالله يا راهب الدير الذي انحدرتْ
من عينه دمعة حرّى كما ذُكرا
حدِّثْ جموعًا رأتْ في الدير معجزةً
فاهًا تكلّم ما ضرّ الردى وترا
يتلو مِنَ الآي أحلاها وأعذبها
أملاكُ ربّي اكتستْ من بوحه دررا
وارتقى قدس الأباتي فارتجل شاكرا مؤكّدا على المضامين التي ساقها سماحة الدكتور وألقى خطابه المكتوب بحروف رائعات وها هو ذا نصّه…
سلام الله الذي يفوق كل إدراك يحفظ قلوبكم وأفكاركم
إن العيش المشترك يقوم على الشركة والمحبة والأخوة الإنسانية والتفاعل
المتبادل أيام الأفراح والأحزان.
أبدأ بكلمة شكر لفضيلة الشيخ الدكتور محمد حيدر الذي شرفني أن ألقي كلمة أمامكم في ذكرى عاشوراء، ذكرى مقتل الإمام الحسين بن علي وأهل بيته ورفاقه على أرض كربلاء على يد جيوش الطغيان والظلم، جيوش الحقد والطمع جيوش الغطرسة والدمار، جيوش الحرب والقتل، جيوش الجشع والعداوة.
أقبل الإمام الحسين إلى الموت حرا، قويًّا، نابذا العداوة، متكلاً على الله وحده، طالبا رحمته وبركاته، لا على السلاطين وولاة عالم الظلام، رافضا الذل والعار غير متردد غير مبال بالطغيان، مفضلاً الموت على الاستسلام الخضوع للشر.
إن الحسين اختار الطريق الأصعب حين قرر الدخول في هذا الصراع الكوني بين الحق والباطل والخير والشر وبين العدل والظلم، من خلال الثورة
على الفساد في أُمته، فثورته ارتكزت على الشهادة للحق، وتبقى هذه الشهادة عنواناً حسينياً يسير عليه كل المؤمنين بكرامة الإنسان، فهو قرر مناصرة الخير على الشر.
إن ثورة الحسين هي ثورة جامعة بمعنى أنها ضمت من النصارى والعجم والشيوخ والنساء والأطفال ما يمثل شرائح المجتمع العربي. من ينسى تلك الليلة الحزينة التي هب فيها وهب المسيحي وعروسه وجون الخادم الأمين، لنصرة الحسين وبني قومه؟ هبوا بدافع من الحب والمودة والتضحية والجيرة. سمعت أم وهب صرخة الحسين، فطلبت من ابنها أن ينصر الحسين في شدته، فتمسكت به عروسه فأبعدها وخرج فقاتل قتالاً شرساً وانتصر وعاد إلى أمه وسألها هل رضيت فقالت: لا، لا، لا أرضى حتى أراك شهيداً مع الإمام الحسين، فذهب وقاتل واستشهد، وقطع الأعداء رأسه، ورموا به إلى خيمة زوجته التي خرجت حاملة عاموداً وهجمت على معسكر الأعداء، فارسل الإمام الحسين اخته زينب لتعيدها لأنه لا يليق القتال بالنساء، فأبت، فأتى جندي وضربها على رأسها واستشهدت. ثم قتل الأعداء أم وهب، ولحق بهم جون الخادم المسيحي، وطلب من الحسين الموت لأجله، فأجابه الحسين أنت ليس عليك الموت والحرب، فقال الخادم، أنا في الرخاء آكل من قصاعكم وفي الشدة أخذلكم؟ فأبى إلا أن يقاتل، وقاتل واستشهد.
عندها قام الحسين ورثا عبده بمرارة ووضع خده على خده وقال “فلا عبد فيكم، لا بل أقربكُم إلى الله أتقاكم”.
نشارككم اليوم هذه الذكرى لأنها مليئة بالإيمان والرجاء، بالوفاء والاخلاص بالكرامة والشرف بالحق والعدل بالصبر والسلوان، بالأخوة والتعاضد، بالرحمة والمحبة بالغفران والسلام.
على الرغم من مرور حوالي ألف وثلاثماية سنة على مقتل الإمام الحسين ورفاقه، ما زال أهل الإيمان والحق يرزحون تحت حكم الاستبداد والطغيان والتسلط، ويتألمون من الظلم والقهر والقتل والدمار، وما زالت الحرب ترتكب وما زال الأبرياء الشرفاء وما فتئوا يتضرعون الى الله وينتظرون رحمته وعدله وعودة الإنسان الى إنسانيته عالمين أنّ العدل يرفع شأن الأمة، ومدركين أن عار الشعوب الخطيئة. وإذا تكاثر الأشرار تكاثرت المعاصي، ولكن الصديقون يشاهدون سقوطهم.
يقول الكتاب المقدس في سفر الأمثال : هنال” ستة يبغضها الرب، بل سبعة تمقتها نفسه: عينان متعالیتان ولسان كاذب ويدان تسفكان الدم البريء، وقلب يزرع أفكار الشر، وقدمان تسرعان الى المساويء، وشاهد زور ينشر الكذب، ويلقي الخصام بين الإخوة”.
على الرغم من التطور التكنولوجي والاتصالات والاكتشافات في عالم اليوم، بحيث أصبحت أخبار الكرة الأرضية تصلك من كل حدب وصوب إلى بيتك وغرفتك بالدقيقة والثانية ما زال هناك إنسان وشعوب ودول وأمم يقتلها الفقر والجوع والأوبئة ولا تصل إليها لقمة يابسة من الخبز أو شربة من الماء. والإنسان يتصارع مع أخيه الإنسان ويحارب ويقتل ويدمر من أجل كنز أو قطعة أرض أو غنيمة أو من أجل فرض أفكاره ومبادئه الشريرة.
لكن تذكر أيها الإنسان أن الكتاب المقدس يقول لك أنك من التراب والى التراب تعود. وأن من يظلم الوضيع يستهن بخالقه. ويمجده من يتحنن على البائس الشرير تطيح به مساوئه، أما الصديق فتحميه نزاهته. والمتواضع الروح ينال مجدا، والمتكل على الرب يأمن ومن سعى وراء الرحمة والعدل، وجد الحياة والصدق والكرامة.
على مر السنين، ومنذ القديم كان لبنان وما زال درة الشرق وجوهره وحريته ونوره على الرغم من الآلام التي عاشها ويعيشها من حروب الآخرين على أرضه، واستقباله لكل مظلوم ومضطهد. أجدادنا وآباؤنا وأمهاتنا أعطونا لبنان، وأورثونا إياه كنزا ثمينا من الحياة والحرية والأمانة والصدق والكرامة والشرف والشراكة والتضامن والعيش المشترك. فما نعيشه نحن اليوم في هذا الوطن لبنان كعائلة لبنانية واحدة متماسكة بالأخوة والمحبة، هو عصارة تربية وتنشئة قامت على الأخلاق والمباديء والقيم هذه العائلة الواحدة وهذا الإرث العظيم، لبنان، مدعوون أن نورثه ونطعمه ونشربه لأولادنا، وأن نسعى بكل ما أوتينا أن نحافظ عليه بلدا لكل أبنائه عنوانه الكرامة والحرية والأخوة والأخلاق، وأن يبقى لبنان وطن الأرز، وطن الشمال والجنوب، وطن السهل والجبل، وطن الرسالة.
أستحضر قول الإمام موسى الصدر في ذكرى عاشوراء سنة ۱۹۷۷ :”بالعدل وحده تبنى الأوطان العدل في السلوك والحكم والقول وبالعدل يصنع التاريخ:
نأتي من دير مار مارون عنايا، حاملين إليكم رسالة القديس شربل، الذي تأتي الناس إليه من كل حدب وصوب، إلى أي دين أو عرق أو لسان أو قبيلة أو شعب أو وطن أو أمة انتموا ونحن نعلم أن أول شخص رأى أنوار القديس شربل تُشع من قبره هو شعي من قرية حجولا جارة دير عنايا.
عنوان حياة القديس شربل الصلاة والصمت ونقاوة القلب.
الصلاة والمثابرة على الصلاة في عالم الإلحاد وعبادة الأوثان. يقول لنا القديس شربل أن الله حاضر معنا، يرافقنا في كل مراحل حياتنا.
عاش القديس شربل الصمت أي الإصغاء الدائم إلى صوت الله، وهو اليوم يكلمنا بصمته المدوي. الصمت قيمة إنسانية في عالم أصبح يتقن فن الثرثرة من خلال وسائل التواصل.
القديس شربل نقي القلب فلم يترك ولو فاصلة صغيرة من الحقد أو البغض أو العداوة تدخل إلى قلبه جسد رحمة الله في حياته تجاه الإنسان من دون أن يستثني حتى الحيوان فقال للحية في الكرم: “روحي يا مباركة”.
نأخذ الحكمة والعبرة من مسيرة القديس شربل لنكون بناة السلام ودعاة الحق والحرية، نمشي طريق الحياة معًا وأنظارنا متجهة نحو الله، عالمين أن وقتنا في هذه الأرض قصير مهما طال فنحن في غربة الحياة، والحياة الحقة الأبدية هي مع الله في الفردوس.
وفي الختام إني أسأل الله أن يفيض علينا أجمعين في هذه الذكرى المباركة نعمه وبركاته، وأن يعم العالم أجمع الغفران والسلام، وأن يسود الحب والوئام والإخاء جميع البلدان في مختلف أصقاع الأرض. وأن يحفظ وطننا الحبيب لبنان لكي يبقى وطن العيش المشترك، وطن الرسالة.
أدامكم الله بالخير والبركة، وأن تبقى ذكرى الإمام الحسين ورفاقه وأهل بيته، ذكرى الصدق والكرامة ذكرى العدل والحرية، ذكرى الرحمة والسلام.
شكرا لإصغائكم.