في المؤسسة المؤسسة الخيرية الاسلامية لابناء جبيل وكسروان، كفرسالا عمشيت، أقيم المجلس العاشورائي، تحدث فيه الدكتور عماد فغالي، مؤسس منتدى لقاء، بحضور عدد من رجال الدين وحشد كبير من أبناء البلدة.
نص كلمة الدكتور فغالي:
الفكر الحسينيّ، إشكاليّة الدين بين النصّ والممارسة
في المجالس الحسينيّة التسبق العاشر، استذكارٌ يوميّ لاستشهاد أفراد أهل البيت تباعًا. لافتٌ في دلالته، موقف أهل البيت سلام الله عليهم مع الإمام الحسين، يبانُ لا داعمًا له، بل متبنّيه. كأنّما كلٌّ منهم الحسين. هو إمامُهم صحيح، لكنّهم في ثورته لا يطيعونه فقط. يطلبون إليه القتالَ حتى الشهادة. يجدر التأمّلُ في الحالة من زاويةٍ: الفكرُ اليجمع أهل البيت بالإمام! واضحٌ كم مقتنعٌ كلٌّ منهم من موقعه، بالظروف الاجتماعيّة المتردّية، والحالة الإنسانيّة الغائبة عن الطغمة الحاكمة، المتحكّمة برقاب العباد. واضحٌ كم يعانون ما دفعهم إلى ركبِ متن الثورة اعتناقًا.
في هذا السياق أتناولُ معكم الليلةَ موضوعًا معاصرًا يجد جذورَه في الأسباب الموجبة للثورة الحسينيّة ويمتدّ في قناعات أهل البيت عليهم السلام… ولا تزال الأمّةُ، دعوني أسمّيها الحسينيّة، لِما تطال الفكرَ الدينيّ في انتماءاته، الإسلاميّة والمسيحيّة، وربّما غيرهما من الأديان أيضًا، تحيا تداعياتِها مأساةً مستدامة: إشكاليّة الدين بين النصّ والممارسة.
الإنسان يدين للإله، علاقةٌ عاموديّة تصاعديّة. هذا هو الدين مصطلحًا. هو في صورةٍ دَينٌ. دَين الإنسان للإله عمّا يهبُه من قدراتٍ يعجز عنها بمفرده. وكما يقول المزمور: “ماذا أردّ للربّ عن جميع ما أعطاني؟” لتكن عبادتي له!
في الأديان السماويّة، تطالعنا الكتب المقدَّسة بإعلان الله للإنسان كيفيّة عبادته له. كأنّما يخبر الإله عابدَه بمشيئته في ردّ الأخير دَينه له. وهكذا انتظمتِ العبادة في كلّ دين وفق إرادة الله. والناسُ ينتظمون حسبما يُملي عليهم كتابُهم إرادةَ الله أن يفعلوا. ولأنّهم في أحيانٍ لا يفقهونَ الكتب، وُجدَ فيهم من اطّلع، وأخذ الأمرَ على عاتقه، وراح يعلن لهم شرحًا وتحليلاً، ما خفيَ عنهم.
العبادةُ في مفهومها، شعور الإنسان تجاه الإله بالمحبّة والامتنان. والشعور لا يوجد في ذاته إلاّ تعبيرًا. لذلك تشكّلت العبادةُ في خطّين متوازيين تعبيرَ “يدين له”: المسلكيّة والطقوس. في تعبيرٍ عمليّ: الصلاة والعيش.
الكتاب الخاصّ بكلّ دين، تشكّل المرجع الأساس، وتصنّف مقدَّسًا. هو كتابُ الله، وأتباع الدين
أهلُ الكتاب. في الكتاب، تحدّدتْ أسسُ العبادة في وجهيها. كيف يسلك أتباعُ هذا الدين التسمّوا
مؤمنين أو عبادًا، ويعيشون، ليُرضوا الله ويدينوا له. وكيف يمارسون شعائرَهم، أي كيفيّة صلاتهم وطقوس عبادتهم الخاصّة.
راح الناسُ يمارسون عباداتهم ويعيشون حسب النظم الخاصّة بدينهم. ولهم في تفسير الكتب وتنظيم عباداتهم مرجعيّات دينيّة أو رجال دين، درسوا العلوم الخاصّة بدينهم وتبوّأوا المناصب الدينيّة في تراتبيّتها. وأخذت الهيكليّات التنظيميّة الدينيّة حيّزَ النمطيّة، فكلّ انزياح عن عاديّة الممارسة أو السلوك اعتُبرَ خروجًا على الدين، وطبعًا تصنّفَ خطيئةً في أقلّ اعتبار، ونُعتَ بالفحشاء وارتكاب المُنكر، ليصل إلى الكفر.
نجد في تاريخ العلوم الدينيّة، تطوّرًا كبيرًا طاول المفاهيم الأساسيّة لاعتقادات سرتْ عليها الأديان قرونًا أحيانًا. هذا نتج عن أبحاثٍ واكتشافات دلّتْ على حقائقَ غيّرتْ النظرة إلى أمورٍ اعتُبرتْ زمانًا مسلّمات.
وعلى الصعيد المسلكيّ، جرت معاملة الناس الخارجين على النمطيّة الممارساتيّة، بطريقةٍ رفضيّة، فرضتْ “معاقبتَهم” أحيانًا كثيرة بلا إنسانيّة مفرِطة. هل هذا ما يريده الله فعلاً؟ وهل صحيح أنّ اعتبار الخروج على النمطيّة خروجًا عن محبّة الله وطاعته؟ هل الله يعاقب الإنسان؟ ووفق أيّة عدالة؟ هل عدالة الله هي حسب منطق الناس أم له عدالة أخرى؟
النصّ الكتابيّ، اعتُبرَ مقدَّسًا، ويليق به هذا. هو كتابُ الله، يُكرَّم ويُعمَل به. واجبٌ هذا أيضًا. ولكن، كلّنا عارف أنّ تفسيرَ الكتاب واقفٌ على فهم الإنسان له. أقصد بالإنسان هنا أهلَ الاختصاص. وهذا ما جعلَ تطوُّرَ الفكر الدينيّ قائمًا بتطوُّر المعطيات المتوفّرة لهؤلاء. طبعًا ظهرت التباينات، خصوصًا متى مسّ الفكرُ المسلّمات النمطيّة والموروثات البائدة (التفكيرات والممارسات القائمة من دون تعليل أو تحليل، أو حتى من دون فهم أو استفهام).
في كلّ الأحوال، مسلّمةٌ واحدة تشملُ كلَّ شيء. الله خلق الإنسان وأحبّه، ويريد له الخيرَ فقط. أيّ نصٍّ يُفهَم هكذا، ويطبَّق على هذا الاعتبار، مقبولٌ من الجميع. وإذا أراد عالِمٌ تفسيرَ نصٍّ أنّ اللهَ يُحذّر من عاقبة، لا ينصّبنّ العالِمُ هذا نفسَه المعاقِب. “ليدع الله يفعل”.
أمَا علينا اعتبار الله يقبلنا كما نحن، في ضعفاتنا وحتى في ابتعاداتنا عنه؟ أما علينا الابتعاد عن تنصيب ذواتِنا حكّامًا قساةً باسم الله والكتاب في حقّ أخينا الإنسان؟
في الختام، سلامُ الله عليكم يا أهلَ البيت… السلامُ على العبّاس، على القاسم، وعلى عليّ الأكبر… على أحبّاء الحسين الشاركوه ثورتَه لأجل نهجٍ يغلب. حسبُ الممارسةُ تلاقي النصَّ المُنزَل والموحى، ولا يكون النصّ ممضغةَ الأهواء المتسلّطة، فتكون الممارسةُ اليوم كما أيّام الحسين… حسبُ الممارسةُ ثورةٌ امتداد للثورة الكربلائيّة، فيكون لنا دينٌ يُعاشُ في مجتمعٍ تسوده العدالةُ كرامةَ إنسان.