اقلام

السيد «أبو عباس»… الحاج محسن.. بقلم الدكتور الشيخ صادق النابلسي

عن جريدة الأخبار
السيد «أبو عباس»… الحاج محسن
صادق النابلسي

الخميس 1 آب 2024

لا يزال هذا الاسم يسكن وجداني. أشعر أنّه أول الأسماء وأجملها. أسماء البدايات والبيت المفتوح على ميدان الجهاد والمقاومة، الذي اتسع لكل مقاوم وحوار حول أشكال القتال مع العدو الإسرائيلي. حتى عندما اضطر إلى تركه والانتقال إلى «الحاج محسن»، لم يغادرني الاسم الأول بحنينه وقوّته وروحه. عندما كان يأتينا إلى بيتنا في البيسارية، كانت رؤيته تبعث في نفسي معاني الرهبة. قامته الفارعة وجسمه الصلب وصوته الجادّ ونظراته الحادة كانت تجعل حواسي، وأنا الطفل الذي لم أتجاوز السبع سنوات، كلها في حالة ارتباك. مع كثرة تردّده بمفرده، وأحياناً برفقة السيد عباس الموسوي، نشأت مودّة بيني وبينه، وكان كثيراً ما يحب ملاطفتنا أنا وإخوتي، ويدعونا إلى تقوية أجسامنا والتدرّب على السلاح وملاقاة المخاطر الشديدة بثبات. وما زلتُ أذكر كيف كان يُصرّ على تدريبي فنون القتال ويجتذبني بقوة ويقلبني رأساً على عقب فوق كتفه كلما أتى، وكنتُ مع نهاية كل شوط تمريني أقول لقد نجوتُ، إلا مرة واحدة عندما عدتُ إلى والدتي باكياً من ألم ظهري. ولمّا سألتني عن سبب بكائي قلتُ لها إنّ السيد «أبو عباس» أحبّ أن يمازحني على طريقته الخشنة (العسكرية). بعد سنوات طويلة على هذه الحادثة كنتُ عائداً من المدرسة، حيث كنتُ أدرس البكالوريا، فوجئت بسيارة تقف بمحاذاتي قرب جامع الحسنين في الضاحية الجنوبية. فُتح الزجاج القاتم للمقعد الأمامي الأيمن، وإذ بالسيد «أبو عباس» يبادرني بلهجته البعلبكية: «كيف صار ضهرك؟». احتضنته وقبّلته، وتبادلنا أطراف الحديث لدقيقتين وغادر مودّعاً. ذكّرني هذا الموقف بما اتسم به أبو الفضل العباس من فضائل جمّة، وكنتُ دائماً ما أقيم مقارنات بين السيد «أبو عباس» وأبي الفضل العباس عليه السلام، وخصوصاً عندما كنتُ أسمع عن شجاعته وبطولاته من والدي وأخي الحاج محمد والحاج أبو علي في معركة خلدة إبان الاجتياح الإسرائيلي وفي ميادين جهادية عدة.كنتُ إذا سمعتُ سيرة العباس في أيام محرم الحرام عن طلب الإمام علي (ع) من أخيه عقيل أن يختار له امرأة قد ولدتها الفحولة من العرب ليتزوجها فتلد له غلاماً فارساً، فأشار إليه بأن يتزوج أم البنين لأن ليس في العرب أشجع من آبائها، كان يحضرني مشهد ولادة فؤاد شكر فوراً، ببأسه وعنفوانه وحميّته وشهامته وإقدامه وجرأته في خوض الصعاب.
وكنتُ كلما سمعتُ حديث الإمام الصادق (ع) يقول: «كان عمنا العباس بن عليّ نافذ البصيرة، صلب الإيمان، جاهد مع أبي عبد الله الحسين عليه السّلام وأبلى بلاءً حسناً ومضى شهيداً»، أتصور الأمين العام لحزب الله وهو يؤبّن «السيد أبو عباس» ويقول عنه الكلمات نفسها. وأيضاً ما روي عن علي بن الحسين (ع) حين قال: «رحم الله العباس فلقد آثر وأبلى وفدى أخاه بنفسه حتى قُطعت يداه، وأنّ للعباس عند الله تبارك وتعالى منزلة يغبطه عليها جميع الشهداء يوم القيامة»، أتخيّل ما قام به من أجل الأمين العام وكيف آثر وأبلى وفدى حتى ارتقى شهيداً مقطّع الأوصال، بل وكيف سيكون مقامه عند الله في السماء؟ وكما عاصر العباس (ع) الحروب التي خاضها أبوه في معركة الجمل وصفين والنهروان، عاصر السيد «أبو عباس» الحروب التي خاضها الأمين العام ضد الصهاينة في اعتداءاتهم التي سمّوها «تصفية الحساب» و«عناقيد الغضب» و«حرب لبنان الثانية»، إضافة إلى دوره ضد «داعش» والجماعات الإرهابية التكفيرية في العراق وسوريا، وصولاً إلى المرحلة الحالية ودوره الإستراتيجي الكبير في مساندة أهل غزة بعد السابع من أكتوبر.
أما أهم الأدوار التي لعبها العباس (ع) فكان دوره في كربلاء، إذ كان صاحب لواء الحسين، واللواء هو العلم الأكبر الذي لا يحمله إلا الرجل الشجاع الشريف في المعسكر. وقد كان السيد «أبو عباس» حامل لواء الأمين العام بعد شهادة الحاج عماد مغنية. ولهذا وصفه الإعلام الإسرائيلي بأنّه «القائد العسكري الأرفع في منظمة حزب الله ورئيس التشكيل الإستراتيجي للمنظمة، وبمنزلة اليد اليمنى والمستشار في شؤون التخطيط وإدارة الحرب للأمين العام لمنظمة حزب الله».
ومن المقارنات التي أجريها حين أقرأ عن شجاعة العباس (ع) في كربلاء إذ يُقال: «لمّا أُدخلت الرايات على يزيد في الشام ورأى راية العباس وما بها من طعن وضرب من جميع أنحائها إلا من جهة المقبض، سأل لمن هذه الراية فقيل له للعباس، فقام يزيد ثلاث مرات وجلس من حيث لا يعلم»، وهذا ما يفعله نتنياهو هذه الأيام إذ يعلم أنّ السيد «أبو عباس» قد خرق بمسيّراته حصون العدو وكشف كل نقاطه المهمة وأنزل ببعضها الطعنات والضربات الصاروخية المدمرة.
بعد شهادته لا أدري ماذا سيقول عنه الأمين العام. هل سيستعير كلمات الحسين لأخيه العباس: «اركب بنفسي أنت يا أخي»، إشادةً بمكانته ومنزلته، أم سيأتي بأبيات راضي القزويني راثياً:
أبا الفضل يا من أسّس الفضل والإبا
أبى الفضل إلا أن تكون له أبا
تطلّبت أسباب العلى فبلغتها
وما كلُ ساعٍ بالغٌ ما تطلّبا
ودون احتمال الضيم عزٌ ومنعةٌ
تخيّرتَ أطراف الأسنّةِ مركبا
وفيتَ بعهد المشرفية في الوغى
ضرّاباً وما أبقيتَ للسيف مضربا
لقد خضت تيار المنايا بموقف
تخال به برق الأسنّةِ خُلّبا
من ملف : في ظلال فلسطين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى