اقلام

“ما خفي أعظم” بقلم الاعلامية ريما فارس

“ما خفي أعظم”

في زمن ليس ببعيد، كانت الأمور المجهولة تحظى بتقدير خاص ورهبة في آنٍ واحد. عبارة “ما خفي أعظم” كانت تتردد على الألسنة، وكأنها تعبير عن سر دفين يتفق الجميع على عدم الاقتراب منه. كانت هذه العبارة تعكس حكمة قديمة، تشير إلى أن هناك حقائق خفية ربما تكون أكبر وأعمق مما نراه.

في تلك الأيام، كانت الألغاز تشكل جزءاً أساسياً من الحياة. كانت الأشياء التي لم تكن واضحة للعيان تحمل قيمة خاصة، تضفي على الحياة عمقاً يثير التساؤلات. لم يكن كل شيء مكشوفاً، ولم يكن الناس يسعون وراء كشف كل ما هو مجهول. كانت هناك مساحة للإيمان بأن بعض الأمور يجب أن تظل بعيدة عن الأنظار، حتى تحافظ على جمالها وسحرها الخاص.

ومع مرور الوقت، وتسارع وتيرة التطور التكنولوجي، بدأت هذه النظرة تتغير. أصبحت الأسرار قليلة، وكأن التكنولوجيا عازمة على كشف كل شيء. لم تعد الأمور الغامضة محط اهتمام كما كانت في السابق. اليوم، يسعى الجميع لمعرفة أدق التفاصيل في حياة الآخرين، سواء بدافع الفضول أو بحثاً عن الحقيقة. أصبح مفهوم الخصوصية نفسه شيئاً معقداً، وكأنه نادر ويحتاج إلى حماية.

في هذا السياق المتغير، بات من الواضح أن الأمور التي كانت غير مفهومة فقدت جزءاً من جاذبيتها. لم يعد الناس يشعرون بالخوف من المجهول، بل أصبحوا يسعون بكل طاقتهم لاكتشاف كل ما لا يعرفونه. وبينما قد يبدو ذلك أمراً طبيعياً أو حتى ضرورياً، إلا أن هناك شيئاً ما قد ضاع في هذا السعي. كل شيء أصبح مكشوفاً، وفقدت الأسرار قوتها وسحرها.

لكن يبقى السؤال: هل نحن حقاً بحاجة إلى معرفة كل شيء؟ أم أن هناك قيمة في ترك بعض الأمور غير مكشوفة، لتبقى في عالمها الخاص، بعيداً عن أعيننا؟ ربما يكون في الاحتفاظ ببعض الألغاز جمال لا يمكننا إدراكه إلا إذا توقفنا عن محاولة كشف كل شيء. قد تكون الأمور المخفية بالفعل أعظم، لأنها تحتفظ بجوهرها بعيداً عن التعقيد.

في النهاية، تظل الحياة مزيجاً من الوضوح والخفاء، من الظاهر والمستور. وبينما نواصل سعينا نحو الفهم والكشف، ربما يجدر بنا أن نتذكر قيمة الأسرار، وأن نسمح لبعض الأمور بالبقاء حيث تنتمي: في تلك الزوايا الهادئة، حيث يمكنها أن تزدهر بعيداً عن الأضواء.
ريما فارس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى