في ظل الزلزال الذي ضرب غزة، وقف العالم مصدومًا أمام المأساة التي رأيناها بوضوح. كانت القلوب تتألم مع كل قصة تردنا من هناك، حيث تبادل الأطراف الاتهامات في محاولة لتبرير أفعالهم. كانت الحرب الإعلامية في أوجها، وكل طرف يسعى لتقديم مبرراته وشرعية أفعاله. ولكن كيف يمكن للعقل أن يتقبل إبادة شعب بأكمله لمجرد مطالبتهم بأبسط حقوقهم الإنسانية؟ حقهم في الحياة بكرامة، في الحصول على الماء، الطعام، الدواء، الكهرباء، المأوى، والأمان…
بدأت الآلة الإعلامية تنسج قصصًا تبدو غير قابلة للتصديق، محاولةً تلميع صورة القاتل السفاح، بينما يُقتل الأطفال وتُغتصب النساء بلا أي وخز للضمير. هذا السفاح الذي يظن أنه يمكنه، تحت شعار الدفاع عن النفس، تدمير حياة شعب كامل، يغرق العالم في دوامة من الأكاذيب لتبرير أهدافه الدنيئة. وفي هذه الحرب، لا يدمّر الفلسطينيين فقط، بل يدمّر أيضًا شعبه لإقناعهم بأحقيتهم في اغتصاب الأرض والعِرض وقتل النساء والأطفال واغتصابهم، بعد أن سوّق لنفسه على أنه المدافع عن الديمقراطية العالمية، ليثبت اليوم أن هذه الديمقراطية لم تكن سوى وسيلة لتحقيق مصالحه الشخصية.
في الجامعة الأمريكية في بيروت، درستُ مفاهيم حقوق الإنسان والديمقراطية، وتعلمت القيم التي تتناغم مع فطرتنا البشرية وتعاليم ديننا الحنيف. تلك القيم التي تشجع على الحب والتآخي واحترام حقوق الآخرين. ولكن مع مرور الوقت، بدأت أرى التناقضات التي تحكم هذا العالم، حيث يتم التمييز بين البشر بناءً على لون البشرة أو انتمائهم.
ثم جاء السابع من أكتوبر 2023، وتفجرت الأحداث التي كانت محتومة منذ عقود. ما حدث كان نتيجة طبيعية لعقود من الاضطهاد والظلم العنصري. وإذا لم يحدث في هذا اليوم، لكان سيحدث في يوم آخر، لأن المستعمر لا يمكن أن يفلت من نتائج ظلمه. نعم، لقد وقع الطوفان، ورغم يقيننا بأن الدول “الحضارية” ستنحاز إلى جانب المحتل، إلا أن هذا الأخير تمادى في إجرامه، متجاهلاً المحافل الدولية وقراراتها وقيمها، والمشاعر الإنسانية للمجتمعات التي نشأت على القيم التي تم تسويقها تحت مسمى الديمقراطية.
وفي ظل هذه الفوضى، اتخذت موقفًا حاسمًا تجاه جميع المنظمات التي أنتمي إليها، وأعلنت انسحابي منها بسبب انحيازها وعدم اتخاذها موقفًا صارمًا إزاء الإبادة التي نشهدها، خاصة وأن الضحايا هم في غالبيتهم من النساء والأطفال، في وقت نحن فيه نناصر حقوق النساء ونكافح العنف ضدهن. لقد شاهدنا في هذا العصر، في هذه الأيام، اغتصاب الفتيات، وتهجير النساء وأطفالهن، وذبحهم! كيف يمكن أن يحدث ذلك؟
ثم توالت الدعوات إلى المؤتمرات الدولية، وكنت أردها دون مشاركة. لكن في تلك الأيام العصيبة، تلقيت دعوة لحضور مؤتمر في وارسو من Vital Voices تحت شعار “Leading the Rise”. قررت قبول الدعوة لأنني أدركت أنه إذا انسحبت من المنظمات الدولية، سأفقد المنصة التي تمكنني من إيصال صوتي للعالم.
افتتح المؤتمر في التاسع من أيلول في وارسو، حيث اجتمعت أكثر من مئة امرأة، معظمهن يشغلن مناصب رسمية في بلدانهن، بينما كانت الأخريات مناصرات لحقوق الإنسان ومدافعات عن تمكين المرأة للوصول إلى مراكز القرار. وقد بدأت السيدة نيلسون، الرئيسة التنفيذية للمنظمة، بكلمة تحدثت فيها عن تراجع الديمقراطية عالميًا وتزايد نفوذ الأنظمة الاستبدادية. وأكدت أن الوقت قد حان لتمكين المرأة من تولي القيادة، خاصة بعد الإخفاقات الكبيرة التي شهدتها العديد من الدول تحت قيادة الرجال.
ما لفت انتباهي في المؤتمر حقًا هو حضور الشابات البولنديات في العشرينات من أعمارهن. كانت ثقتهن بأنفسهن وقدرتهن على التحليل تستحق التقدير. كانت إحدى المداخلات مؤثرة بشكل خاص، حيث أشارت إحدى المشاركات إلى كيفية تربيتها على شعارات حماية حقوق الإنسان والدفاع عنها. لكنها أعربت عن خيبة أملها عندما حان الوقت لتثبت هذه الدول الحضارية التزامها الفعلي بتلك القيم، إذ فشلت في الدفاع عن الإنسان، مما كشف عن الأكاذيب التي تم استخدامها للتأثير على الرأي العام.
كانت أفكارهن حادة وآراؤهن إنسانية بامتياز. إحدى الشابات طرحت سؤالًا مباشرًا: “إذا كانت روسيا المعتدية في النزاع مع أوكرانيا، فمن هو المعتدي في حالة فلسطين وإسرائيل؟” كانت مداخلتها جريئة وتعكس فهمًا عميقًا للأحداث، وتحديًا للنفاق الذي يهيمن على الساحة الدولية. وللحقيقة، كان الجو العام في المؤتمر مناهضًا للظلم بكافة أشكاله، وخاصة ظلم النساء سواء في فلسطين أو في أوكرانيا.
خرج المؤتمر بتوصيات مهمة، أهمها دعم النساء للوصول إلى مراكز القرار، لأنهن الأمل الوحيد المتبقي لتصحيح الأوضاع في الدول التي تعاني من الأزمات. نحن نساء العالم نواجه اليوم ظلمًا لم تشهده الإنسانية من قبل، سواء كان ظلم السفاح أو مشاركة الأصدقاء في الجريمة أو تهاون الإخوة.
في هذا الوقت، يعيش الناس حالة من الانفصام الجماعي. العدو المحتل يُعطى الحق في الدفاع عن نفسه، أما نحن في غزة أو جنوب لبنان، هل لدينا هذا الحق؟ وهل تدافع المحافل الدولية عن حقنا؟ هل هناك من يدافع عن إنسانيتنا العربية؟ أصبح خبر الإبادة اليومية لمئة أو مئتي امرأة وطفل خبرًا عاديًا، بينما مقتل ستة أشخاص من جماعتهم يصبح حدثًا تهتز له المنابر الدولية وتتوقف الحياة في بعض الدول. لا أتمنى قتل المدنيين أيًا كانت خلفيتهم، لكن كيف تتحمل قلوبنا رؤية جثث الأطفال تُجمع في أكياس بلاستيكية؟
يجب أن تتوقف هذه القصص اليوم قبل الغد! كفاية المتاجرة بأرواح الناس! كفاية!
ماذا تقول أنتَ ؟ ماذا تقولي أنتِ؟؟؟
#خلودالوتارقاسم
15/9/2024
المقال يعبر عن رأي الكاتب وليس رأي موقع سانا نيوز شكرًا على المتابعة .