عندما قلت “لبنان أولاً”، لم أكن أعنيها حرفيًا، يبدو أنني أخطأت في الأولويات، فالواقع يقول “لبنان عاشرًا، الهند أولًا، هونولولو ثانيًا، والسلطنة العثمانية ثالثًا”! كيف لا، فلبنان يتصدر قائمة البلاد العاشقة لكل شيء… ما عدا لبنان!
فما أن تبدأ الأزمة، حتى تتجه الأبصار بقلوبٍ تخفق إلى عواصم العالم! ترى اللبناني يرفع العلم الياباني بحماس وكأنه يمجّد ثورة التكنولوجيا واحتياطي الأرز، أو ترى آخر يهلّل للسلام بين نيوزيلندا وأستراليا، ويهنئ أصدقاءه حول العالم بنصر عالمي جديد لا علاقة له به. فالعالم كبير، مليء بالدول المحظوظة التي تعيش بهدوء وسكينة، إلا نحن الذين نعيش في زوبعة أفكارنا التي تحلّق نحو حدود بعيدة لا ترى لبنان فيها إلا ضبابيًا.
كل شعب يحب وطنه ويتغنى به إلا اللبناني… اللبناني يحمل في حقيبته الوطن ليضعه في أقرب مكبّ، ثم يتجه بقلبه وروحه إلى أي دولة تُذكر في الأخبار أو “تعمل ترند” على السوشيال ميديا! هل سمعت عن دولة أوزبكستان؟ اللبنانيون على وشك نقل سفاراتهم العاطفية إليها. إنه نوع جديد من “الهجرة الوجدانية”، فكل دولة أولى بلبنان… إلا لبنان نفسه!
أما المشكلة الكبرى، فهي أن حب الوطن صار موضة قديمة، فاللبناني مثقف كوني! يحب كل بلد لأن فيه شيئًا جميلًا، أما بلده، فهو مكان للجدالات والتراشق السياسي… هنا، كل شيء مؤقت، حتى الصداقة. بينما نجد السيدة ماري برازيلية الروح، والسيد جورج بروتيني الحلم، والأستاذ جاد الذي يرغب بجواز سفر نيوزيلندي… حلمهم المشترك أن يكونوا “أبناء كوكب الأرض”، إلا الكوكب الصغير الذي ولدوا فيه.
وربما ستأتي اللحظة التي نفتح فيها مدارس تعلّم كيف تكون مواطنًا أجنبيًا في لبنان… نعم، لمَ لا؟ أن تدرس وتنجح في كونك أميركياً من الطراز الرفيع، أو فرنسياً يلبس قبعة البيري، أو سويدياً يحافظ على البيئة، وتكون شغوفًا بحقوق الإنسان في الصين، وتشارك شعور الفخر مع الفلبينيين، وتكتب تغريدة حول أهمية الحرية للبريطانيين!
وبعد كل هذا، نشكر لبنان على صبره العجيب في احتضاننا رغم أنه لم يحصل منا إلا على الاستنزاف.
سنا فنيش