بداية الرجاء ايصال سلامي الى والدة وعائلة الشهيد الحاج محمود الشرقاوي، الرضي المرضي، رحمة الله عليه
محمد عفيف، أيها المتنقل بين المجد والخلود
بقلم: ناجي أمّهز
لا أعرف من أين أبدأ، لكنني أحاول أن ألملم أوراقي المبعثرة في ذاكرتي الحزينة المثقلة بكل الأسماء الراحلة إلى الحياة التي لا يوجد فيها موت أو فناء.
حقيقةً، إن معرفتي بك لم تتجاوز عامها الثالث، ولم ألتقِك إلا نادرًا، وغالبيتها في مناسبات عامة. لكن منذ أن سمعت خبر استشهادك، سألت الله: لماذا عرفني عليك؟ ولماذا جعلني أفتقدك؟ أمثالنا صادقون كالطبيعة، يقتلهم الفقد، ويقتلع قلوبهم الحزن، وتمزق أرواحهم الذكريات.
المعرفة شيء مؤلم للغاية. أن تدرك قيمة الأشخاص يعني أن تستمر بالانحناء أمام الإنسانية، اعترافًا بعظمة الله. وأنت كنت إنسانًا صادقًا حتى الاستشهاد.
أن تحب شخصًا بصدق يعني أن يكون قلبك يتسع لله لتحب حبيبك فيه. الحب يحتاج إلى بطولة.
وأنت كنت بطلًا عندما أحببت نصرالله.
وكنت بطلًا عندما قضيت عمرك بقرب نصرالله.
وكنت بطلًا حتى عند الموت، لم تنكر حبك لنصرالله.
وكنت بطلًا لأنك لم ترضَ إلا أن تكون شهيدًا، لتكون قرب الشهيد نصرالله.
في حضرة هذه البطولة الإنسانية، ماذا أكتب عنك؟
عندما شاهدت عمق الحزن في ملامح وجهك على حبيبك الشهيد السيد نصرالله، أدركت لماذا تحدث الله عن الحب في الأنفس الصادقة، وكيف مجّده الفلاسفة حتى أصبح دينًا ومذهبًا وطريقًا لا يسلكه إلا الأبطال.
من يظن أن إسرائيل هي التي عثرت عليك فإنه مخطئ. أنت من كنت تبحث عن هذا الانتقال المشرف: من مجد قربك للسيد نصرالله إلى الخلود بقربه. كل شيء فيك كان يقول: إن هذا الرجل إما سيُقتل حزنًا على نصرالله، أو سيبقى يواجه إسرائيل علنًا حتى تغتاله ويرحل شهيدًا إلى جوار نصرالله.
امثالك ايها البطل تبكيهم العيون تحت أمطار الشتاء وفي زمن القحط، كأنها تحفر في الظلام دربًا للدموع، لتكتب ملاحم الحزن بمدادٍ من الفقد.
يا صديقي، لا أستطيع أن أخبرك كم مرة بكيت وكتبت، ثم مزقت أوراقي، عاجزًا عن احتواء ألمٍ أعظم من الكلمات. كيف للعبارات، مهما عظمت، أن تفي بحق بطلٍ اختار المجد طريقًا بين الأبطال، وافتدى الحياة بدمائه ليمنحها معنىً أسمى، بعد أن وقف فيها عزيزًا كريمًا عظيمًا؟
كيف للهائمين أمثالنا، نحن الذين نسكن الغروب، أن يمنعوا أبناء النور من ارتقاء درب البطولة إلى المجد؟
لقد قرأت الملاحم وسير الأبطال، بحثًا عن كلمات تليق بشهادتك وموقفك الانساني، لكنني أدركت أن سيرتك أسمى من كل ما قرأت. كنت وحدك المعنى الذي يتجاوز الحروف، وحدك الحقيقة التي تُلهم الروح وتُبكيها. كنت البطل الذي علّمنا أن الثبات والتضحية ليست فناءً، بل حياة تُبعث بمعاني الخلود.
وحقيقة انت اليوم خالد، وسيكتب التاريخ ماذا فعل نصرالله بكل هؤلاء الابطال حتى ضاقت الدنيا بهم، ولم يستطيعوا العيش من دونه.
ما هذا الحب الذي كان يملكه نصرالله لاحبابه، حتى يموت احبابه بحب نصرالله.
ربما يكون الموت مرآة تعكس الحياة كما ينبغي أن تكون في طبيعة احباب نصرالله، يريدونها خالية من زيفها اليومي وضجيجها العابر. وربما تكون الحياة، بكل ما تحمله من تناقضات، مجرد دعوة سرية نحو ذلك المجد الذي لا يعرف حدود الفناء. لكن يا صديقي، ما أثقلها من دعوة، حين تكون طريقها الألم والفقد.
أشياء كثيرة لا أملك لها إجابة.
هل الموت هو الحقيقة؟ إن كان كذلك، لماذا نتقاتل على هذه الحياة الزائلة؟
وإن كانت الحياة هي الحقيقة، لماذا يغيب عنها أمثالك، أنقى الأرواح وأصدق القلوب؟ لماذا الأبطال يُستشهدون، ويمضون إلى أماكن لا نبلغها إلا برحلةٍ أخيرة بلا عودة؟
شيء مؤلم أن تُعبّر عن الألم بألمٍ أعظم.
شيء محزن أن تقف الكلمات عاجزة أمام عظمة من ارتضوا الموت واقفين، ليحيوا احبابهم بأرواحهم.
لكنني متأكد، يا صديقي، أنك في سكون الليل ستكون بيننا، وفي سكينة الحياة ستبتسم لنا.
أنا متأكد أن روحك اليوم تقوي أرواحنا، وأن نبض قلبك الذي توقف يضخ الحياة في قلوبنا.
أنا متأكد أنك تحررت من سجن الجسد ومن حدود الأرض، لتفترش السماء وتعانق الأرواح، وتستعيد ابتسامتك التي ذبلت حزنًا على من سبقك.
لقد قرأت الكثير عن الإخلاص والوفاء، ومن رأى وجهك وسمع نبرة صوتك، أدرك أن روحك كانت تضج بالشوق، ترفض أن تبقى بعيدًا عن روح أخيك نصرالله.
نحن الذين نحيا على حافة هذا الوجود، نكافح من أجل حياة نعلم أنها ليست لنا، ونحزن على من يمضون نحو الحرية التي طالما حلمنا بها. غيابك ليس فقط ألمًا، بل هو نور يضيء لنا الطريق، ليذكرنا أن المجد ليس نهاية، بل دعوة مستمرة إلى حياة أسمى.
يا صديقي، غيابك ليس غيابًا فقط، إنه ملحمة وجعٍ تُذكّرنا بأن الأبطال لا يموتون، بل يرحلون ليضيئوا ظلام التاريخ بنور تضحياتهم.
وها أنا أراك الآن، بين الحقيقة والخلود، تبتسم لنا، كأنك تقول: لا تحزنوا، أنا حيّ هنا، في المجد الذي يستحقه الأبطال،
لترقد روحك بسلام.
ناجي امهز
١٩- ١١- ٢٠٢٤