بقلم: لبنى عويضة…
خاص: جريدة الرقيب الالكترونية
لم تعد الجريمة في لبنان حدثًا استثنائيًا، بل باتت روتينًا يوميًا يمرّ كما تمرّ نسمة الهواء، خفيفًا على الأسماع، ثقيلًا على القلوب.
كل يوم، تطالعنا الأخبار بمأساة جديدة: شاب يُقتل بسبب نظرة خاطئة، مراهق يُحرق حيًا إثر إشكال فردي، أب يزهق أرواح أطفاله بدافع اليأس، دهس حتى الموت بسبب أفضلية مرور، سرقة تنتهي بإطلاق نار، وانتحار يجرّ خلفه آخر… وكأنّ الحياة فقدت قيمتها، وباتت تُزهق كما يُسكب الماء أو يُطفأ النور بلمسة زر.
في بلدٍ كان يومًا رمزًا للحياة والفرح، أصبح الدم أرخص من الرغيف، وصارت الجريمة أسرع الحلول لإنهاء الخلافات، كأننا عدنا إلى زمن القبائل الأولى، حيث لا قانون يحكم سوى منطق السلاح، وكأننا نعيش في غابةٍ تحكمها شريعة العنف.
مجتمع على الحافة: كيف وصلنا إلى هنا؟
لبنان اليوم أشبه ببركان غاضب، قشرة رقيقة تحتاج إلى شرارة لينفجر.
سنوات من الانهيار الاقتصادي، والفساد السياسي، وانعدام العدالة، صنعت من المواطنين قنابل بشرية موقوتة، لا تحتاج إلا إلى لحظة غضب لتنفجر. لم يعد العنف ظاهرة معزولة، بل أصبح ثقافة يومية، من الشوارع إلى البيوت، ومن المدارس إلى أماكن العمل.
في الماضي، كانت الجريمة منظمة، لها دوافعها وأسبابها، أما اليوم، فقد أصبحت عشوائية، سريعة، وعبثية، خصوصًا مع انتشار السلاح المتفلّت، حيث بات الحصول على سلاح ناري أسهل من شراء هاتفٍ جديد. والأخطر من ذلك، أن حمل السلاح أصبح أمرًا طبيعيًا، لا يخضع لأي رقابة أو محاسبة، إلا في حالات انتقائية تستهدف فئة دون أخرى.
وهكذا، لم نعد نعرف من أين تأتي الطعنات، فالقاتل قد يكون صديقًا، جارًا، أو حتى أحد أفراد العائلة.
حين يصبح الدم ماءً
نحن أمام مجتمع يعاني انهيارًا أخلاقيًا خطيرًا، فالجريمة لم تعد تهزّنا كما في السابق. لم يعد أحد يسأل: “لماذا؟” بل أصبح السؤال الوحيد: “من التالي؟”
مشهد الجثث والحوادث أصبح مألوفًا، والنعي خبرًا يوميًا يُنشر على مواقع التواصل الاجتماعي كأي منشور آخر، كأنّ الموت تحوّل إلى تريند لحصد التعليقات والتفاعل. أما العدالة، فهي ذكرى بعيدة، تُدفن مع الضحايا.
وما يزيد المأساة أن الجناة في كثير من الأحيان يفلتون من العقاب. فكم من قاتلٍ حُمي بغطاء سياسي؟ وكم من جريمة سُجّلت ضد “مجهول”؟ في وطن تُباع فيه الأرواح في مزاد المصالح، كيف نتوقع احترامًا للحياة؟
الدولة اللبنانية: بين الغابة والمقصلة
حين تنهار القوانين، لا يبقى أمام الإنسان إلا خياران أحلاهما مرّ: إما أن يصبح وحشًا ليحمي نفسه، أو أن يكون الضحية المقبلة.
وفي ظل فقدان الثقة بالمؤسسات الأمنية والقضائية، بات كثيرون يرون في العنف وسيلتهم الوحيدة للبقاء. نحن لا نعيش في وطن، بل في غابةٍ تُرسم حدودها بالدم، وتُروى أرضها بأرواح شبابها.
هل هناك أمل؟
• الإصلاح الاقتصادي؟ حلم بعيد المنال.
• الإصلاح السياسي؟ وهمٌ في زمن الطوائف.
• الإصلاح الاجتماعي؟ ليس مجرد تحدٍّ، بل نكتة سوداء في وطنٍ تتآكل قيمه من الداخل.
لكن رغم هذا السواد، لا تزال هناك فرصة أخيرة: إعادة هيبة القانون. يجب فرض مبدأ “لا أحد فوق المحاسبة”، لا واسطة، لا حماية، لا استثناءات.
القاتل يجب أن يُعاقب بلا هوادة. الجريمة يجب أن تُردع، لا أن تُبرَّر. وفي بعض الجرائم، لا بد من إعادة تفعيل عقوبة الإعدام، ليس حبًا في العنف، بل لأن العدل أحيانًا يحتاج إلى قوة تردع من يفكر في الاستهتار بالحياة.
لكن السؤال الأهم: هل لا يزال في هذا الوطن من يسمع النداء؟
إذا لم يتحرك أحد اليوم، فقد نصحو غدًا على وطنٍ لا مكان فيه إلا للموت… والموت وحده سيكون الحَكَم والحاكم.