اقلام

العلامة السيد علي فضل الله:الإمام المهديّ(عج).. أمل المستضعفين

{وَنُرِيدُ أَن نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}[القصص: 5]…

{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدَّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[النّور: 55]..

الولادة المباركة وسرّ إخفائها

في اللّيلة الخامسة عشرة من شهر شعبان، وفي مدينة سامرّاء، كانت الولادة المباركة للإمام الثاني عشر من أئمّة أهل البيت(ع)، الإمام محمد بن الحسن العسكريّ.

لم تكن ظروف هذه الولادة عاديّةً كغيرها من الولادات…

فالمولود لم يكن مولوداً عاديّاً: هو المولود الوحيد للإمام العسكري.. هو الخاتم لسلسلة الإمامة المباركة، الّتي ابتدأت بعليّ(ع)، وتنتهي بالمهديّ(عج). هو من سيحمل علم أبيه وأجداده، ومن سيتابع نشر رسالة جدّه رسول الله(ص) وحفظها، وهو الّذي على يديه سيتحقّق الوعد الإلهيّ بانتصار المستضعفين على المستكبرين، ومن خلاله سيعمّ العدل العالم بعد طول طغيان…

لهذا، كان الإمام الحسن العسكريّ حريصاً على تهيئة كلّ أسباب الحماية لهذا المولود من كلّ المتربّصين به، الّذين أدركوا خطره عليهم بعد الأحاديث الواردة عن رسول الله(ص) والأئمّة(ع) الّتي تبشّر به وبدوره، وبحتميَّة نجاحه، ما استدعى منهم خوفاً واستنفاراً لتتبّع ولادته والتخلّص منه..

ولذا حرص والده الإمام الحسن العسكري على إحاطة ولادته بالسريّة التامّة، ولم يعرف بأمر هذه الولادة إلا الخواصّ من أصحابه والمقرّبين منه، وصولاً إلى تسلّمه مسؤوليّة الإمامة بعد وفاة أبيه الإمام الحسن العسكري…

سفراء الإمام في غيبته الصغرى

ففي فترة إمامته، لم يتواصل الإمام المهديّ مع الناس مباشرة، بل من خلال وسطاء أربع، سُمّوا بالسّفراء أو النوّاب الخاصين للإمام(عج)، وكانوا على التَّوالي: عثمان بن سعيد العمري، محمد بن عثمان العمري، حسين بن روح النوبختي، وآخرهم علي بن محمد السّمْري.

وقد استمرَّت هذه السَّفارة بين الإمام(عج) والنّاس سبعين عاماً تقريباً، كانوا خلالها يتعاقبون في نقل ما يجري من أحداثٍ في شأن المسلمين العام، وكذلك كانوا ينقلون الاستفسارات والأسئلة من النّاس إلى الإمام (عج)، ويعودون بأجوبته الموقَّعة منه والممهورة بختمه.

وبوفاة السّفير الرّابع، انقطع معه هذا التّواصل، وكانت نهاية ما سُمِّي بالغَيْبَة الصّغرى، لتبدأ الغيبة الكبرى؛ هذه الغيبة الّتي امتدّت منذ ذلك الزّمن، إلى أن يأذن الله له بالخروج..

الغيبة الكبرى

وعندما غاب الإمام، حدَّد لأمَّته كلّ السّبل لتستهديَ طريقها، وخصوصاً عندما يلتبس عليها صحَّة ما ورد من أحاديث عن رسول الله(ص) وأهل بيته(ع)، مما يتعلَّق بالتّشريع وتفسير القرآن والعقيدة والمفاهيم، حدّد الإمام الجهة قائلاً: “وأمّا الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم، وأنا حجّة الله”.

ثم توجّه الإمام بالحديث عن  الفقهاء،  محدّداً طبيعتهم وخصائصهم الأخلاقيّة والإيمانيّة، مشيراً إلى ما ورد عن أبيه: “فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فعلى العوام أن يقلّدوه”.

ودعا العلماء بما دعا إليه رسول الله(ص)، أن يرصدوا كلّ الانحرافات الفكريّة والفقهيّة والعقائديّة والحركيّة، وأن لا يهادنوا في ذلك ولا يداروا، أن لا تأخذهم في الله لومة لائم، وأن يبيّنوا الحقائق بكلّ نقائها وصفائها .. “إذا ظهرت البدع فعلى العالِم أن يُظهر علمه، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله”..

وفي الوقت نفسه، حذّر بما حذّر منه رسول الله(ص) مما قد يصيب الفقهاء عندما قال : “الفقهاء أمناء الرّسل ما لم يدخلوا في الدّنيا”، و عندما قيل له: “وما دخولهم في الدّنيا؟”، قال: “اتّباع السّلطان، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم”..

أسباب التعلّق بالإمام(عج)

أيّها الأحبَّة: إنّ ارتباط النّاس بالإمام المهدي مستمرّ من خلال ارتباطهم بالعلماء وفق الخطوط العريضة التي حدّدها(عج)، والتي استلهمها من معين القرآن، ومن هدي جدّه رسول الله(ص) الّذي لطالما ذكر الحجّة(ع) وذكر أنّه الامتداد له: “القائم من ولدي اسمه اسمي، وكنيته كنيتي، وشمائله شمائلي، وسنّته سنّتي، يقيم النّاس على ملّتي وشريعتي، ويدعوهم إلى كتاب الله عزّ وجلّ.. من أطاعه أطاعني، ومن عصاه عصاني، ومن أنكره في غيبته فقد أنكرني”..

إنّ علاقتنا بالإمام المهديّ(عج) هي علاقة عميقة ومتجذّرة في وجداننا وعقولنا وقلوبنا… نحن نحبّه؛ فكرةً ووعداً وأملاً، ونتبنَّاه واقعاً وعملاً، ولا نكفّ عن الدّعاء له: “اللّهمّ كن لوليّك الحجّة بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه السّاعة وفي كلّ ساعة، وليّاً وحافظاً، وقائداً وناصراً، ودليلاً وعيناً، حتّى تسكنه أرضك طوعاً، وتمتّعه فيها طويلاً”..

وإنّ أسباب تعلّقنا بالإمام المهديّ(عج) واضحة:

فهو من سيحقِّق إرادة الله بنشر دينه وإتمام نوره في الأرض..

وهو من سيحقِّق طموح الأنبياء بنشر العدل الّذي كانت كلّ رسالاتهم دعوة إليه.. فمعه سننعم بزوال القهر، وعودة الأمل. نتعلّق به، لأنه سيكون الوجه الأوحد للعدل، في مقابل أوجه الظّلم المتعدّدة، الّتي باتت تقتحم أمّتنا تحت مسمّيات عدّة، وبأشكال مختلفة، وبعناوين برّاقة تدّعي أنّها تعمل لمصلحة البشريّة..

ونحبّه ونرتبط به، لأنّه إمام عصرنا الّذي نعيشه، فمعه لا نقول :”يا ليتنا كنّا معكم فنفوز فوزاً عظيماً”، بل نقول: “اللّهمّ اجعلنا (اليوم وفي كلّ يوم) من أنصاره وأعوانه والمستشهدين بين يديه..”.

الانتظار المطلوب

لهذا كلّه نحن نتعلّق به، وسنظلّ ننتظره كما انتظره آباؤنا وأجدادنا، وكما سينتظره أحفادنا، سننتظره على مدى الزّمن وفي كلّ الأمكنة، فكلّ مكان له دور فيه، وهو من سيملأ الأرض عدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً..

ولكنّنا في الوقت نفسه نقول:

ـ لن ننتظره انتظار القاعدين بل انتظار المجاهدين…

ـ ولن ننتظره انتظار الجاهلين بل انتظار العالمين..

ـ ولن ننتظره انتظار اليائسين والمحبطين بل انتظار المتفائلين الآملين…

ـ لن ننتظره أفراداً متفرّقين بل أمّةً مجتمعةً وأمّةً متوحّدة..

أيّها الأحبّة: لقد سيء فهم انتظارنا للإمام المهديّ، والتبست صيغة ارتباطنا به، حتّى ظنّ البعض أنّ الانتظار يساوي قعوداً، ويساوي جموداً، ويساوي عزلةً وتخلّياً عن المسؤوليّات، لأنّه سيظهر من سيقوم بها عنهم..

وهنا لا بدّ من أن نؤكّد أمراً، وهو أنّ الإسلام ـ منذ انطلق ـ لم يجمّد تكاليفه في أيّة مرحلة ولن يُجمّدها، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.. وإنّ عمل كلّ امرئ هو على عاتقه وحده، ولا يمكن لأحد أن يقوم به عنه.. فلا يمكن لأحد أن يتخلّى عن مسؤوليّاته ويضعها على عاتق أحد، حتى ولو كان عاتق رسول الله أو عاتق أحد من الأئمّة، فالتكليف مستمرّ من الله: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}[المدّثّر: 38].

مسؤوليتنا في زمن الغيبة

أيّها الأحبَّة: ونحن ننتظر ونترقَّب ظهور الإمام المهدي، لن ننشغل كثيراً بالتَّنقيب عن علامات الظّهور أو ننشغل بفكرة قلب المعادلة: ـ بأنّه علينا أن نفرح إذا ازداد الطّغيان لأنَّه يعجّل ظهور الإمام المهدي  ـ بل ينبغي أن يكون كلّ عملنا منصبّاً على فكرة أنّ الإمام قد يظهر في أيّ وقت (وقد يظهر بغتة)،  ليرانا ونحن نحمل زاداً يمكّننا من أن نكون معه، من جنوده، ومن الممهّدين له..

تكليفنا، أيّها الأحبّة، أن يظهر الإمام وعدّتنا جاهزة: عزيمةً وإرادةً وشجاعةً وصبراً وإيماناً وووعياً وشعوراً بالمسؤوليّة، وعملاً دؤوباً…

أن نكون جنوداً مخلصين للإمام المهدي، هو أن نحمل المسؤوليّة بكلّ قوّة وجدارة، وأن نتوارثها جيلاً بعد جيل، أن نعيش همّه ليكون همّه همّنا، وحرصه حرصنا، وسعيه سعينا، حتّى ولو لم نره في حياتنا..

إنّ جنود الإمام المهدي هم كلّ واعٍ وعاملٍ وداعٍ ومجاهدٍ، منذ غيبته إلى ظهوره، منهم من بذر أرض الإسلام ومنهم من رواها ومازال يرويها.. ومنهم من يقوّيها، ومنهم من يصونها ويحميها..  جنود الإمام المهدي هم من يسعون ولا يتوقّفون، لأنّهم يعون جيّداً ما ورد في كتاب الله: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى}[النّجم: 39-40].

باعث الأمل في الأمة

أيّها الأحبّة.. الإمام المهدي هو باعث الأمل فينا، ونحن بحاجةٍ إلى هذا الأمل؛ الّذي هو الدّافع إلى العمل الحقيقيّ لتحقيق إرادة الله على الأرض، ولسنا نحن فقط من نحتاجه (نحن من نتّخذ الإمام المهدي إمامنا)، بل إنّ الإمام المهدي هو حاجة لكلّ مقهور، سمعنا بأنّاته أو لم نسمعها، وما أكثر أنين المقهورين المستورين!

وهو حاجة لكلّ مظلوم، علمنا بشكواه أو لم نعلمها، والمظلومون كُثر كُثر، يتوزّعون في كلّ أرجاء الأرض، يعانون بصمتٍ قاتل، يرتدّ إلى داخلهم، فيبتلع كلّ ما لديهم من أمن وأمان وكرامة وعزّة وحرية، من لهؤلاء جميعاً سوى الأمل الحقيقيّ الّذي نراه قريباً…

أيّها الأحبّة: من الإمام المهدي نتعلّم دروساً، نتعلّم أن نكون أوفياء للإنسان كلّ الإنسان، لا تحدّ هذا الوفاء حدود الهويّة والطّائفة والمذهب والعرق، ولا الزّمان أو المكان.

لأنّ ما يجمع الإنسان بأخيه الإنسان هو الشيء الكثير، فالألم واحد، والأحلام والآمال واحدة.  ومهمّة إعمار الأرض تقع على عاتق الّذين تتألّق الإنسانيّة في داخلهم، فتتألّق كلّ الإنسانية بهم…

فهلاّ سعينا ليكون سعينا مشكوراً مقبولاً، وفي طريق كلّ الأحرار والعادلين والمجاهدين والمقاومين والعلماء العاملين وصولاً إلى الوعد الإلهيّ…

اللّهم وصلّ على وليّ أمرك القائم المؤمّل، والعدل المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس منك يا ربّ العالمين.

اللّهمّ اجعله الدّاعي إلى كتابك، والقائم بدينك، استخلفه في الأرض كما استخلفت الّذين من قبله، مكِّن له دينه الّذي ارتضيته له، أبدله من بعد خوفه أمناً يعبدك لا يشرك بك شيئاً…

اللّهمّ أعزّه و أعزز به، وانصره وانتصر به، وانصره نصراً عزيزاً، وافتح له فتحاً يسيراً، واجعل له من لدنك سلطاناً نصيراً…

اللّهمّ أرنا الطّلعة الرّشيدة، والغرّة الحميدة، وأكحل ناظرينا بنظرة منه، وعجّل فرجه، وسهّل مخرجه يا ربّ العالمين..

زر الذهاب إلى الأعلى