بقلم: لبنى عويضة…
خاص: جريدة الرقيب الالكترونية
في عصر غلبت فيه السرعة وسيطرت التكنولوجيا على مختلف جوانب الحياة، أصبحت القراءة وكأنها من مخلفات الماضي، شيئًا “ديموديه” لا يتماشى مع متطلبات الحاضر. نعيش اليوم في عالم مليء بالصوت والصورة، حيث يتم اختزال المعرفة في مقطع “فيديو” قصير أو منشور سريع، وبينما تتكرر الدعوات لثقافة “أمة تقرأ”، تكاد القراءة الفعلية تصبح مجرد شعار يُرفع لا ممارسة حقيقية.
وهم المعرفة السريعة
المفارقة المؤلمة أن الكثير ممن يتحدثون عن أهمية القراءة هم أنفسهم بعيدون عنها. كيف؟ ببساطة، لأنهم يظنون أن متابعة الأخبار، تصفح منشورات الفيسبوك، أو مشاهدة برامج النقاش التلفزيونية هي “قراءة”. يكتفي البعض بالاطلاع على معلومات سطحية ويعتقدون أنهم بذلك حصلوا على ما تعجز الكتب عن منحه، لكن هل هذه فعلًا قراءة؟
هناك فرق جوهري بين القراءة والاستهلاك السريع للمحتوى. الكتب تمنحنا الفرصة للغوص في أعماق الفكر، لممارسة التحليل والتفكير النقدي، بينما تبقى وسائل التواصل الاجتماعي مجرد قشور. في زمن باتت فيه المعلومة تُقدَّم لنا على طبق جاهز دون تعمّق، نفقد تدريجيًا القدرة على البحث والاستنتاج.
حين تصبح الكتب “تريند”
لم ينجُ عالم الكتب من هذه الظاهرة، بل أصبح جزءًا من ثقافة “التريند”. فلم يعد المقياس هو القيمة الفكرية أو الأدبية، بل عدد المبيعات والضجة الإعلامية حول الكتاب. وتصدرت كتب القوائم لا لأنها تحمل أفكارًا عميقة، بل لأنها مغلفة بأسلوب تسويقي جذاب، مكتوبة بلغة سهلة تُشبه منشورات السوشيال ميديا.
كثير من هذه الكتب ليست سوى تجميع لأفكار مكررة ومستهلكة، لكنها تلقى رواجًا لأنها تلبي حاجة السوق، لا حاجة العقل. وهكذا، تضيع الكتب التي تحمل فكرًا حقيقيًا وسط زخم السطحية والاستهلاك السريع.
هل انتهت القراءة؟
ربما لا. القراءة لم تمت، لكنها تحتاج إلى إعادة إحياء. نحن بحاجة للعودة إلى لحظات التأمل مع الكتاب، إلى تلك العوالم التي تأخذنا بعيدًا عن الضوضاء، وتسمح لنا بفهم الذات وتوسيع آفاق الفكر.
القراءة ليست مجرد استهلاك للمعلومات، بل هي رحلة ذهنية لا تكتمل إلا إذا خضناها بكل وعينا. وإنها الأداة التي تشكّل العقول وتصقل الإدراك، وليست مجرد كلمات على صفحات، بل عوالم تعيش في أذهاننا، تتفاعل مع أفكارنا، وتغيّر نظرتنا إلى الواقع.
المعرفة.. ليست للجميع
في النهاية، الكتب ليست مجرد أوراق تُقرأ، بل مفاتيح تُفتح بها الأبواب المغلقة، لا يراها إلا من أدرك أن النور يختبئ خلف الرموز. هي الأحجار غير المنقوشة، تنتظر من يُشكّلها بفكره، ليبني بها معبد المعرفة الذي لا تهدمه رياح الزمن.