
نحن 14 آذار الحقيقيين… وما تغيَّرنا لا بعد 1989 ولا حتى 2989
بقلم ناجي علي أمّهز
في البدء كانت الكلمة، وكان لبنان، وكنا نحن الذين خرجنا من رماد المحن كطائر الفينيق، نحمل الحياة بين أجنحتنا وندافع عن وطننا حتى الرمق الأخير.
ومنذ البدء، كان بيننا “قابيل” و”هابيل”؛ نحن قدّمنا أنفسنا قرابين على مذبح الوطن، فيما تسلّق آخرون سلالم السلطة فوق جراحنا وأوجاعنا.
وكما قال المقاوم الأول، يسوع، لبطرس: “الحق أقول لك، إنك في هذه الليلة، قبل أن يصيح الديك، ستنكرني ثلاث مرات.”
وهكذا، نحن المقاومين الأوائل، تمّ إنكار تضحياتنا، لا لشيء، إلا لأن عظمتها كانت تفضح صغر شأن الكثيرين أمامها، فكان لا بد من تغييبنا.
ولكل من يريد حذفنا وشطب اسمائنا من التاريخ نقول:
تحية إلى كل الذين سبقونا إلى مجد الرب من أجل مجد لبنان، وإلى كل من عُذّب ونُكّل به، لكنه بقي صامدًا، يأبى الانحناء، ويرفض تزوير التاريخ أو التنازل عن إيمانه.
تحية إلى الكثير من القيادات والأبطال، وفي مقدمتهم اللواء عصام أبو جمرة، الزاهد الناسك، الذي لم يغره بريق السلطة او بزار التقلبات والبيع والشراء، واكتفى بمعاشه التقاعدي، متمسكًا بالمبادئ لا بالمكاسب. وإلى كل الرفاق، أولئك الذين وُلِد الوطن في قلوبهم قبل أن يولدوا فيه، فحملوه في أرواحهم، وكانوا له السند والعز. غالبيتهم من عامة الشعب، من الفقراء الذين كبر الوطن فيهم، بينما غيرهم كبرت قصورهم وازدهرت أعمالهم على حساب الوطن، فخانوا الأمانة وباعوا القيم من أجل بريق زائل.
نحن الذين كتبنا بدمائنا على الجدران “عون راجع”، ولم نتراجع. لم نُساوم، لم نبع، ولم ننكسر، رغم أن الأثمان كانت أرواحنا، ورغم أن السجون كانت في أي لحظة قد تبتلعنا دون محاكمات، وأن الاحتلال السوري ومن معه كانوا يحكمون باسم الوطن وهم يجهلون معناه. كنا نحمل في قلوبنا جمرة الحرية، ونحفر في الصخر طريقًا للسيادة، غير عابئين بالأثمان وضخامة التضحيات أو حتى الموت على المشانق، فالحياة لا تكون حياة بظلال الطغاة والاحتلال الذين لاحقونا على مساحة الوطن.
في حقبة الاحتلال السوري، كنا—مسلمين ومسيحيين—نبحث عن ذاك القائد الذي يحمل المشعل ويسير أمامنا، فتتبع خطاه أجيال تحمل في قلوبها إيمانًا بالحرية. كنا نتحرك كالأطواد الراسخة، بثبات وعزيمة، نكافح للخروج من ظلام كاد أن يبتلع إيماننا بوطن سيد، حر، مستقل.
بالأمس، كان حافظ الأسد يحكم سوريا، فهتف اللبنانيون بصوت واحد: “سيادة، حرية، استقلال.”
واليوم، رغم تبدّل الوجوه وتحولات الأنظمة، يحكم سوريا نظام إسلامي متشدد، لكن صرخة اللبنانيين لم تتغير: “سيادة، حرية، استقلال.” كأن قدر هذا الوطن أن يظل في مواجهة الطغيان، أيًّا كان لونه أو شعاراته.
لبنان ليس مجرد وطن، بل شجرة راسخة على ضفاف المتوسط، شجرةٌ تفتخر بها السماء، يمجّدها التاريخ، ويباركها الله بأبناء أبطال نذروا أنفسهم لصون كرامتها.
لم نكن جلادين، بل كنا الضحية.
لم نخدع أحدًا، ولم نستغل أحدًا طمعًا في صوت انتخابي، بل كنا مستعدين لنُحمل في صناديق الموت، كي يبقى صوت لبنان حرًا، وقراره مستقلاً، وإرادته لا تُشترى ولا تُباع.
كنا نخرج ولا أمل بالعودة، فمن سيقع في ايدي الاحتلال السوري كان يتمنى لو وقع الموت عليه.
في لبنان، كان الحلم جريمة. لكننا حلمنا، وحوّلنا أحلامنا إلى مقاومة، ووطننا إلى قضية لا تموت. كانت الأخبار تنتشر عن اعتقالات الليل من قبل وحوش لا تعرف الشفقة أو الرحمة، كانوا يريدون تخويفنا بالالم والموت، ولم يكن الموت يُرهبنا، لكننا كنا نرتجف خوفًا على وطننا الذي قسموه الى طوائف من اجل السيطرة عليه. “ويلٌ لأمة تكثر فيها المذاهب والطوائف وتخلو من الدين”، ونحن رأينا كيف تحولت الطوائف إلى متاريس، وكيف صار الوطن سوقًا يُباع فيه الولاء لمن يدفع أكثر.
حملنا أوجاعنا في حقائب الذاكرة، وسرنا دروبًا لا يعرفها إلا من واجه الاحتلال السوري، لا لأننا نحب الموت، بل لأننا أردنا حياة تليق بنا. كنا نخشى أن نموت قبل أن نشهد لبنان محررًا، قبل أن نرى جنازة المجد تسير في شوارعنا، قبل أن يرفرف علمنا فوق قبورنا، كي نعلم أننا لم نمُت عبثًا.
كان الدم يتجمد في عروقنا حين كنا نرى حاجزًا طيارًا للسوريين، لأننا نعلم أن الحياة والموت عندهم قرار مزاجي. لم يكن هناك من يدافع عنا، ولم يكن هناك من يجرؤ على أن يقول “يا حرام”. كنا نمرّ بالحواجز كأننا نُسلم أرواحنا، نتمتم بالقرآن والإنجيل، ليس لأننا كنا نتوقع معجزة، بل لأننا كنا نرجو أن يعمي الله عن عيونهم لحظة. حتى لو مررت أنت، فإن الذي معك حتما سيتم إنزاله وإهانته بأبشع واقذر الطرق والكلمات (ولاك حقير) (وين الهواوي)، عند كل حاجز للسوريين يجب أن تُهان. ومع ذلك، كنا عندما نتجاوز الحاجز نشعر بمزيد من الإصرار على أن نكمل دربنا، ولم يكن سلاحنا إلا جملة “سيادة حرية استقلال”.
الكثير من الرفاق نسأل عنهم، فيقال إنهم هاجروا، لكن نحن، إلى أين نهاجر؟ والوطن فينا. رغم كل الظلم، لم نفقد الأمل، لم نتراجع، لأننا كنا نعرف أن الوطن ليس شعارًا يُرفع عند الحاجة، وليس راية تُطوى بعد انتهاء المعركة. كنا نحلم بوطن مقدس كأرز الرب، يشبه جباله التي لا تركع، وبحره الذي لا يسكن، وحريته التي لا تُشترى. وعندما خرج السوري، كنا نظن أننا سنصبح رموزًا، وتتحول قصصنا إلى روايات تلهم الأبطال كيف يندفعون كالسيل العارم للدفاع عن الوطن من أجل أن ينالوا المجد والخلود. فإذا بنا نجد أنفسنا خارج المشهد، وكأننا لم نكن إلا حطبًا في نار التحرير.
سامحنا الجميع، لأننا كنا دائمًا نقرأ ميشال شيحا: “عندما انطلق مع آخرين إلى تمهيد الطريق لإقامة لبنان حرّ مستقل”. لقد سامحنا كل الذين ظلمونا، لكن لن نسكت عندما يُظلم الوطن.
أيها الأصدقاء، لا تحزنوا. التاريخ لا ينسى، والزمن يُصفّي الحسابات بطريقته. “ليس الكبير من يُشيد الأنصاب، بل من يهدم الأخطاء”. نحن لم نشيّد لأنفسنا أنصابًا، لكننا هدمنا جدران الخوف، فتحنا نوافذ النور، كسرنا القيد، وأطلقنا صرخة سيادة، حرية، استقلال، حتى وصل صوتنا إلى السماء.
صوتنا كان نقيًا، طاهرًا، بريئًا، صادقًا. لم تكن لنا غاية إلا غاية واحدة: أن يبقى هذا الوطن، الذي يستيقظ شعبه على صوت فيروز “ردني الى بلادي” ويغفو على صوت وديع الصافي “لبنان يا قطعة سما”
وللأسف، كيف يبقى هذا الوطن إذا كنا نحن، المناضلين الأحياء، قد أصبحنا مجهولين، الاسم والمكان، دون أن يوضع إكليل من الغار على نصب تضحياتنا؟
لم نكن تجار أوطان، ولم نبع أحلامنا لنشتري القصور والمناصب. كنا نسير حفاة في دروب النضال، نحمل كرامتنا وحلمنا كما يحمل الجندي سلاحه واما موته او انتصاره، بينما غيرنا نام واستيقظ ليجد نفسه يملك كل شيء.
لقد وهبنا كل ما نملك للوطن، في زمن الاحتلال، وحين رحل، لم نتراجع، بل منحناه وقتنا وأصواتنا، وكتبنا ودافعنا بكل ما أوتينا من قوة عن أفكارنا ومن مشينا على نهجهم، ظانّين أن النضال إرثٌ لا يندثر، وأن التضحيات لا تُمحى. لم نكن ندرك أن تاريخنا النضالي، الذي سُطّر بوجع السجون ورهبة الموت، سيصبح عبئًا على الوافدين الجدد، أولئك الذين جاؤوا بلا ذاكرة، وتحدثوا باسم الحرية كأنها وُلدت يوم جلسوا على الكراسي.
كيف بعتم نضالنا؟ وتتحدثون عن الحرية والسيادة وكأنكم كنتم روّادها؟
يا ليتنا متنا قبل أن نرى ما رأينا! لكننا لم ولن نتغير. لا بعد 1990، ولا حتى بعد ألف عام. نحن الصوت الذي لا يهدأ، والحلم الذي لا يموت، والوطن الذي لا يُباع، “لكم لبنانكم ولي لبناني”، فلبناننا هو لبنان الحلم، لبنان الشهداء، لبنان الكرامة. لبنان الذي لن يموت، لأنه باقٍ فينا، وإن أنكره الجميع.
نحن الحقيقة. نحن 14 آذار. نحن لبنان.
والبقية تأتي… والتاريخ شاهد.
ناجي علي امهز