السياسية

بعد الحرب الأهلية… سلام بلا ذاكرة ووطن بلا رواية

بقلم: لبنى عويضة…
خاص: جريدة الرقيب الالكترونية

لا تنتهي الحروب حين يسكت الرصاص، بل حين تُقال الحقيقة كاملة، وتُروى الرواية كما حدثت فعلاً. حين يُبنى وطن لا يُغرق أبناءه فيه، ولا يتركهم ضحايا لذاكرة مبتورة.
في لبنان، انتهت الحرب الأهلية منذ 35 عاماً… على الورق. جفّ الحبر على اتفاق الطائف، لكن البنادق لم تختفِ، والطوائف لم تتغيّر، والماضي لم يُدفن كما يجب. كأننا دخلنا هدنة طويلة بلا عدالة، بلا مصالحة، وبلا إجابات على الأسئلة التي ما زال الجرح ينزفها.

الحرب، عمليًا، لم تنتهِ. تبدّل شكلها، خف صوتها، لكنها تسللت إلى السياسة، واستقرّت في التعليم والطوائف والنفوس. كأننا لم نخرج منها فعلاً، بل اعتدنا العيش في ظلّها، بصمتٍ مريب.

طُويت الحرب على طاولة الطائف، لكن الاتفاق بقي حبراً على رفوف الصفقات. وُلد سلام هشّ، لا نهاية حرب. أما البنود، فلم تُمسّ جوهر الأزمة: الطائفية، واللامحاسبة، واحتكار الذاكرة.

حين وُقّع الطائف عام 1989، رآه البعض بداية لبنان جديد، قائم على المساواة والمصالحة. لكن الحقيقة أن الاتفاق لم يُنفّذ حتى اليوم. صحيح أنه أوقف القتال، لكنه لم يعالج الأسباب التي فجّرت البلد. وبدلاً من تفكيك البنى الميليشيوية، أُلبست البزات الرسمية وتبوأت المناصب، بينما طُمست الجرائم بعبارة “عفا الله عمّا مضى”.
وهكذا، بُني السلام على أرضية رخوة، بلا محاسبة، بلا اعتراف، بلا حق.

في دول العالم، تُختَتم الحروب بلجان تحقيق، محاكم، شهادات، متاحف، ومناهج تعليمية توثق الحقيقة. أما في لبنان، فلا كتاب تاريخ موحد، ولا متحف وطني يوثّق، ولا يوم رسمي للذكرى، ولا عدالة انتقالية. كل طائفة احتفظت بروايتها، والحقيقة بقيت بين السطور… كأننا قررنا أن ننسى، أن نتجاهل، وأن نستمر في العيش على جرح مفتوح.
وربما، الأصعب من الحرب، أن ترثها من دون أن تعيشها.

جيل ما بعد الحرب لم يعرف القنص ولا الحواجز، لكنه يعرف الخوف من الآخر، والارتياب من الاختلاف، والانتماء الطائفي قبل الوطني. لم يختر الحرب، لكنه يتحمّل نتائجها: في فساد الدولة، في غياب العدالة، في انعدام الثقة، وفي ضياع الهوية الجماعية.
الحرب كانت قصيرة… أما السلام، فطال دون أن يقنع أحدًا بأنه البديل الأفضل.

لم تنتهِ الحرب حين توقّف القتال، بل حين قررنا أن نغضّ الطرف عن الجراح، أن نغطيها بشعارات الوحدة الزائفة والتسويات المؤقتة.
لكن الجرح الذي لا يُنظّف يُصاب بالتهاب. ولبنان، منذ الطائف حتى اليوم، يعيش هذا الالتهاب المزمن: صراعات لا تهدأ، طائفية لا تموت، وخوف لا يرحل.
لو واجهنا الحقيقة منذ البداية، ربما كنّا نعيش اليوم سلامًا حقيقيًا، لا مبنيًا على النسيان، بل على الاعتراف. لا على تقاسم الغنائم، بل على بناء وطن.

ربما لم يفت الأوان. فالحقيقة لا تموت، حتى وإن صمتت طويلاً.
ما نحتاجه اليوم هو حرب من نوع آخر: حرب على النسيان، على الخوف، على الطائفية.
ربما آن الأوان لنسأل: لماذا لم نكتب قصتنا؟ لماذا لم نحزن كما يجب؟ ولماذا لم نُشفَ بعد؟
وربما فقط حين نملك الشجاعة لطرح هذه الأسئلة، نبدأ أخيرًا بكتابة السلام.

زر الذهاب إلى الأعلى