السياسية

بين الذهب المتوهج والنفط المتراجع: النظام العالمي يعاد صياغته

بقلم: لبنى عويضة…

خاص: جريدة الرقيب الإلكترونية

في عالم يتجه نحو الفوضى المنظمة، لم تعد أسعار الذهب والنفط مجرد مؤشرات مالية، بل أصبحا مرآة تعكس تحولات أعمق في موازين القوى وهشاشة النظام العالمي. تتداخل هذه التحولات مع اتجاهات إيديولوجية وحركات استراتيجية تعيد صياغة النظام العالمي من أساسه.

اليوم، ومع بلوغ الذهب مستويات قياسية تجاوز فيها سعر الأونصة 3401 دولار، في ظل تراجع سعر برميل النفط إلى 67.26 دولار، يجب أن نقرأ هذه المؤشرات ليس فقط كمجرد تقلبات سوقية، بل كعلامات على تصدع منظومة قديمة وصعود بديل جديد.

إن صعود الذهب إلى ما فوق 3401 دولار للأونصة في لحظة تعثر الدولار ليس صدفة؛ بل هو إشارة رمزية لتحول عميق، يتجلى في سعي قوى مثل الصين وروسيا والهند للابتعاد عن النظام المالي العالمي الذي يدور حول الدولار. لذا لجأت هذه القوى إلى تكديس الذهب كاحتياطي، تمهيدًا لمرحلة قد يتم فيها الاستغناء عن الدولار كعملة أساسية. وعلى عكس الأموال المودعة في البنوك الغربية، لا يمكن تجميد الذهب أو مصادرته عبر العقوبات. ولهذا أصبح العديد من الدول يعتبرونه الضمان الحقيقي لاستقلالها المالي، ولا يُستبعد أن نرى في المستقبل عملات رقمية وطنية مدعومة بالذهب بدلاً من الدولار.

من جهة أخرى، لم يعد صعود الذهب مجرد استثمار آمن، بل أصبح يعكس تراجع الثقة بالغرب كمركز مالي عالمي. ما نشهده اليوم قد يكون بداية لانهيار تدريجي في مكانة الدولار كعملة مهيمنة على الاقتصاد العالمي.

أما تراجع أسعار النفط رغم الاحتقان الجيوسياسي، فيكشف تحولًا معكوسًا لما يحدث مع الذهب. فقد كسر هذا التراجع المعادلة القديمة “النفط مقابل النفوذ”. ففي فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، كان يُعتبر النفط أداة هيمنة، وكانت الدول التي تمتلكه تمارس السلطة. أما اليوم، فإن الدول المنتجة للنفط تضخه فقط للبقاء على قيد الحياة، لا لفرض شروطها. ولعل الفائض المعروض من النفط ليس تعبيرًا عن الوفرة بل عن الخوف من العجز المالي في اقتصادات ريعية مأزومة.

إضافة إلى ذلك، فإن السياسات البيئية الغربية لم تعد مجرد رد على التغير المناخي، بل أصبحت استراتيجية لتقليص الاعتماد على مناطق غير مستقرة سياسيًا. فكل استثمار في الطاقة المتجددة هو خطوة نحو التحرر من الدول المنتجة للنفط، وبالتالي تفكك شبكات النفوذ الطاقوي.

ومن هنا، لم يعد النفط ضمانًا للاستقرار السياسي في الدول المنتجة. على العكس، أصبح ارتباط الاقتصاد بالنفط مصدرًا للهشاشة البنيوية أمام أي صدمة متعلقة بالسعر أو صدمة خارجية، مما يفتح الباب أمام هشاشة اجتماعية قد تنفجر سياسيًا.

إذن، الجمع بين صعود الذهب وتراجع النفط يطرح فرضية مثيرة: هل نحن بصدد انفجار النظام المالي العالمي بصيغته النيوليبرالية؟ لعقود، بُنيت الأسواق على الثقة في أدوات مالية لا تملك قيمة ذاتية (مثل الدولار، الأسهم، السندات). اليوم، ومع تآكل الثقة بالمؤسسات، نعود إلى الأصول “الحقيقية”: الذهب، المعادن، الأرض.

هذا الواقع يظهر أننا أمام تشظٍ نقدي واقتصادي متعدد الأقطاب، حيث تُبنى التحالفات المالية كما تُبنى التحالفات العسكرية. وبالتالي، نحن على وشك التخلص من الأحادية القطبية، ولم تعد البورصات خارج السياسة. فاليوم، يُستخدم الذهب والنفط كسلاح أو أداة ردع، وهما بذلك يمثلان رسالة تفاوض وآلية للبقاء.

ما يحدث اليوم لا يمكن فصله عن منطق إعادة تشكيل السيادة في القرن الواحد والعشرين. الذهب يعود كرمز للسيادة النقدية، والنفط يتراجع كرمز لهيمنة الريع. وبينهما يقف الاقتصاد العالمي عند مفترق طرق: إما التحول إلى تعددية نقدية صلبة، أو الانزلاق نحو أزمة نظامية قد تكون أكثر عمقًا من أزمة 2008.

لم يعد الذهب مجرد ملاذ، بل هو إعلان صامت عن نهاية مرحلة وبداية نظام عالمي جديد، يتم فيه صياغة السيادة بالوزن لا بالكلام. ولأن السياسة لا تنفصل عن الاقتصاد، فإن من يملك الذهب اليوم لا يملك المال فقط، بل يملك المستقبل.

زر الذهاب إلى الأعلى