
بقلم: لبنى عويضة…
خاص: جريدة الرقيب الالكترونية
في بلد تتآكله الأزمات على كافة الأصعدة، تظهر البلديات كأمل ضائع في تحقيق الحد الأدنى من التنمية. ففي الوقت الذي يُفترض أن تكون البلديات المحرك الأساسي للتنمية المحلية، الحاضنة الأولى للحوكمة الرشيدة، والمختبر الطبيعي للديمقراطية التشاركية، حيث إنها الكيان الإداري الأقرب للمواطنين والأكثر قدرة على فهم حاجاتهم اليومية، نصطدم بالواقع اللبناني الذي يُفرّغ هذه السلطات من مضمونها. هذا الواقع يحوّل البلديات إلى هياكل إدارية متقادمة، غارقة في الروتين الوظيفي، ومكبلة بتشابكات الزبائنية والانتماء العائلي.
غياب الكفاءة: تكليف بلا تأهيل
بعد عقود من نشأة العمل البلدي، يتضح أن معظم المجالس البلدية اللبنانية تعاني من فجوة معرفية ومؤسساتية صارخة. يتم انتخاب الأعضاء على أساس الانتماء العائلي أو المعرفة الشخصية، لا على أساس الكفاءة أو القدرة على الإدارة العامة. في بلد يواجه تحديات عمرانية، بيئية، واقتصادية معقدة، نجد مجالس بلدية يفتقر أعضاؤها إلى أي خلفية في التخطيط المدني، الاقتصاد المحلي، أو التشريعات التنظيمية. هذا الغياب للتأهيل المؤسسي ينتج قرارات اعتباطية، إدارات مرتجلة، وممارسات بدائية في تقديم الخدمات. البلديات تُصبح خاضعة لآليات التنفيذ الفوضوي بدل العمل المؤسسي البنيوي. والأسوأ أن هذا الانكشاف المعرفي لا يُنظر إليه كأزمة وطنية بل يُعتبر أمرًا واقعًا يُدار بالمسايرة والترضية.
الترشح بلا إقامة: تمثيل مفرّغ من المضمون
إحدى أبرز المفارقات البنيوية في النظام البلدي اللبناني هي حصر الترشيح والاقتراع على أساس السجل المدني لا الإقامة الفعلية. هذا الخلل التشريعي يُنتج تمثيلًا اسميًا، حيث يتولى إدارة البلدة أو القرية أشخاص لا يعيشون فيها، لا يعرفون ديناميكياتها السكانية، ولا يتفاعلون يوميًا مع بنيتها الاقتصادية والاجتماعية. النتيجة المباشرة هي مجالس بلدية تُدار عن بُعد، وحياة محلية تفتقر لأي تواصل عضوي مع ممثليها. تُهمش مشاكل السكان المقيمين فعليًا لصالح الاعتبارات الانتخابية العابرة، وتُختزل العلاقة بين البلدية والمواطن إلى موسم انتخابي يُدار عبر الوعود والمصالح لا عبر البرامج والاستراتيجيات.
التنمية المجهولة: حين تصبح البلديات مجرد خدماتية
البلديات في لبنان لا تمارس دورها التنموي الفعلي، ليس لأنها لا تريده، بل لأنها لا تملكه. فغالبية المجالس المنتخبة تفتقر إلى أدنى معرفة بمفاهيم التنمية المستدامة، الإدارة التشاركية، أو التخطيط الحضري المتكامل. لا توجد خطط أو استراتيجيات للنقل، البيئة، والإسكان، ولا دراسات ديمغرافية تحدد أولويات الاستثمار المحلي. العمل البلدي يُختزل إلى لائحة خدمات بدائية مثل جمع النفايات، تزفيت الطرقات، وتركيب أعمدة الإنارة. في المقابل، تُهمش القضايا البنيوية مثل البطالة المحلية، النزوح، التصحر الزراعي، والتعليم، وهي جميعها ملفات تقع ضمن مسؤولية البلديات الحديثة.
علاوة على ذلك، في العديد من المناطق، لا توجد خرائط تنظيم مدني أو حصر للعقارات، ولا معرفة دقيقة بالبنى التحتية القائمة. لذا، يغيب مفهوم الحوكمة المحلية ويُستبدل بنموذج الإدارة اليومية دون أي بُعد استشرافي أو استراتيجي.
غياب الرؤية: لا دراسات، لا مؤشرات، لا مؤسسات
لكي تمارس أي بلدية دورها التنموي، تحتاج إلى أدوات منهجية: تحليل نقاط القوة والضعف (SWOT)، مسوحات سكانية، بيانات إحصائية، مؤشرات أداء، شراكات مع القطاع الخاص والمجتمع المدني. ولكن في لبنان، هذا الإطار المفاهيمي غائب بالكامل. لا يوجد في البلديات جهاز تخطيط، ولا وحدة دراسات، ولا حتى أرشيف ديموغرافي يُبنى عليه أي تدخل تنموي. كما أن البلديات لا تبني ميزانياتها على أساس موازنات برامج (Program-Based Budgeting)، بل على بنود كلاسيكية نمطية لا تتيح أي إدارة فعلية للأولويات. وحتى عند توفر التمويل – عبر هبات أو مساعدات دولية – غالبًا ما يُصرف بشكل غير منهجي، أو يتبخر نتيجة غياب الكفاءة، الفساد، أو سوء التنفيذ.
البلديات كأداة للزبائنية والمنفعة الشخصية
غالبًا ما تتحوّل البلديات من مؤسسات تمثيلية إلى أدوات لتكريس الزبائنية والمنفعة الخاصة. بدلًا من أن تُدار وفق رؤية تنموية تستند إلى الحاجة العامة، تُستغل مواقعها لتوزيع الخدمات على أساس الولاء، لا الاستحقاق. تُمنح التلزيمات والوظائف والامتيازات لمن “يواكب”، وتُحجب عن من يختلف، ما يُحوّل الخدمة العامة إلى سلعة. كما تُستخدم التنمية كوسيلة لبناء النفوذ وتبادل المنافع، لا كهدف للصالح العام.
الإصلاح المنشود: من التجميل إلى إعادة التأسيس
لا يكفي التعديل الجزئي لقانون البلديات، بل المطلوب إعادة صياغة فلسفة العمل البلدي من جذورها عبر:
• ربط الترشح بالإقامة الفعلية لإعادة التمثيل إلى معناه الحقيقي.
• فرض حد أدنى من المؤهلات الأكاديمية أو الخبرات على المرشحين.
• إنشاء معهد وطني لتدريب البلديات يُعنى ببناء القدرات التقنية والإدارية.
• إلزام البلديات بإعداد خطط تنموية موثقة وقابلة للتنفيذ.
• إتاحة البيانات والموازنات للعموم لتفعيل الشفافية والمساءلة المجتمعية.
• منح الإدارة المحلية الاستقلالية الحقيقية.
البلديات ليست ترفًا ديمقراطيًا بل ضرورة وجودية
لعل البلديات، إذا فعّلت دورها كسلطات محلية حقيقية، ستكون قادرة على كسر مركزية الدولة المتضخمة، وتحفيز الاقتصاد المحلي، وضمان مشاركة المواطن في القرار التنموي. أما في صيغتها الحالية، فهي مجرد انعكاس لانحلال الدولة المركزية وشاهد على عجز النظام عن إعادة إنتاج إدارة فعّالة ومسؤولة. إذا أردنا مستقبلًا أكثر عدلًا واستقرارًا، لا يمكن القفز فوق هذه الحلقة الأساسية في البناء الوطني. البلديات ليست هامشًا إداريًا، بل حجر الأساس في الدولة الحديثة. والاعتراف بهذه الحقيقة هو أول الطريق نحو إصلاح لا يزال مؤجلًا… ولكن لم يعد من الممكن تجاهله.