السياسية

زغرتا وفية، وال فرنجية اوفياء، حين عانق سليمان فرنجية ابنه طوني.

زغرتا وفية، وال فرنجية اوفياء، حين عانق سليمان فرنجية ابنه طوني.

بقلم ناجي علي امهز

اتكلم عن طوني بك فرنجية الذي اعرفه جيدا، فانه رغم عقوده الثلاث وفوقها سبعٌ من سنيّ الخير، إلا أنه تعلّم باكراً ما لا يتعلّمه كثيرون في أعمار متقدمة: تعلّم أن يهب الحب حتى لمن أساء إليه، وأن يصافح اليد وإن كانت تحمل سكيناً، وأن يذهب بخطى مشبعة بالشوق فوق الشوك ليعبد الطريق بالورود للقادمين اليه وحتى نحو من لا يريدونه. تعلّم أن يشرّع أبوابه لا لابناء بلدته وطائفته فقط، بل لكل ابناء الوطن والمترددين والمتألمين، وجعل من داره وطناً صغيراً لا يُسأل فيه الداخل: من أنت؟ بل: كيف حالك؟
طوني بك فرنجية، الذي تشرّب التواضع من سليمان بك فرنجية القوي، ففهم أن القوة لا تعني الجفاء، وان الحكمة والمعرفة هي التي ترفع، كما تمرّس على الإصغاء كأنّه خلق ليسمع للناس، وأعطى ليعطي، لا ليُقال أعطى، بكرمٍ لا ينتظر شكراً ولا يضع اسمه على الأبواب، واكتسب فنّ الحوار لا كخُطبٍ تُلقى من أعلى المنابر، بل كجسور حقيقية تُبنى بصمت بين القلوب والعقول، وتعاقب الاجيال.

كم أسرني ذلك المشهد الذي وصلني، تلك اللحظة التي عانق فيها سليمان بك فرنجية ابنه طوني، لم تكن مشهداً انتخابياً عابراً، بل كانت لحظة محفورة في ذاكرة الأرض، مشهدية متكاملة من التاريخ والحنين والانتماء، كأنها صورة منقوشة منذ ثلاثة آلاف عام على جدار الزمن اللبناني. لحظة تعيد سرد حكاية العائلات التي لم تولد لتعتلي السلطة، بل لتقدّم ذاتها قرباناً للوطن، جيلاً بعد جيل.

سليمان، الذي عاش مذبحةً في طفولته، ورأى والده ووالدته وأخته يُغتالون، لا يحمل سلاحاً للثأر، بل قلباً يسع الغفران وأخلاق الفرسان. حمل الجرح في صمته، وحوّل الألم إلى صبر، والصبر إلى بناء. وفي لحظة العناق مع ابنه المنتصر، بدا كأنه يقف أمام مرآة قدره، يسلّم الأمانة لمن يشبهه، من طين ذاته وعنفوان جباله.

ذلك العناق لم يكن احتفالاً بصندوق اقتراع، بل احتفالاً بالشرف، بالإرث، وبالأمانة. أمانة لا تولد من نتائج انتخابية، بل من العظم والتراب والعرق والدموع. عائلة فرنجية ليست بيتاً سياسياً تقليدياً، بل ما يشبه سلالة حكم بطراز لبنانيّ خاص، مزيج من مارونية صلبة، وهوى شماليّ أصيل، وانتماء عروبيّ لا يتنكر لتاريخه.

في تلك اللحظة، بدا وكأن الدم الملوكي فعلاً يجري في عروقهم. لا من أجل عرش، بل من أجل وطن، حتى ولو كان الوطن مجرد جمرة، فهم يحتضنونه حتى يعود “قطعة سما”. ليس طوني هو المنتصر فقط، ولا سليمان أيضاً، بل هذه الارض هذا الشعب الذي اختار من يمثله بصدق وامانة وبطولة.

سليمان بك، نشعر بسعادتك، وبشكرانك العميق، إذ إن والدك من ملكوت السماوات يرى الشعلة تنتقل من كفّ إلى كفّ، ومن قلب إلى قلب، دون أن تخبو.

ضمّ سليمان طوني إلى صدره، كما يضمّ المؤمن كتابه المقدس. لا كلمات، لا خطب، فقط نظرة أب، تقول كل شيء: “أنت منّي… وأنا فخور بما أصبحت”.

وذلك الفخر هو أثقل من كل الميراث. فخر الآباء حين ينجو الإيمان، وحين يكمل الأبناء درباً معمدة بالتضحيات، ومزروعة بقبور الشهداء. دربٌ الموارنة على مر التاريخ وهم يحفرون بالصخر اصرار بقائهم في هذه الارض المقدسة، وحملها سليمان بصفاء فارس وفروسية نادرة… وها هو طوني يكتب سطره فيها، من دون زيف ولا تكلّف.

إنها لحظة جامعة: حنان وإيمان، دمعة وابتسامة، دفء العائلة وندوب المعارك. صورة تختصر سرّ استمرار لبنان: هذا البلد الذي قد يموت مئة مرة، لكنه لا يُدفن… لأن فيه ذاكرة، وفي ذاكرته تضحيات، وتضحيات هي قرابين… وحب للوطن وشعبه حب لا يُقهر، وعائلات لها جذور الى عمق التاريخ، وارتفاع شاهق الى فجر المستقبل.

زر الذهاب إلى الأعلى