
مقدمة:
في وطنٍ لم يبقَ فيه ما يُدافع عنه سوى الذكريات، يُطلّ علينا ملف النازحين السوريين ككابوسٍ ديموغرافي واقتصادي واجتماعي، يُهدّد ما تبقى من الكيان اللبناني المتعب. وكأنّ لبنان الذي تقاسمته الطوائف على مدى قرن، يعيد رسم خرائط الديمغرافية من باب اللجوء والنزوح، لا من باب الحروب والاجتياحات.
في خضم هذا المشهد، يبرز حراكٌ مسيحيّ لافت—سياسي وديني—من لبنان الى باريس وواشنطن، يحاول ترميم ما يمكن ترميمه من الهوية اللبنانية، وحفظ “العيش المشترك” الذي يتهدّده خطر التمدد الديمغرافي السوري. في المقابل، يلفّ الغياب الصارخ للموقف الشيعي، وكأنّ الطائفة الأكثر عرضة لخطر هذا المتغير، قد أُسِرَت داخل مصالح صغيرة، لا ترى الكارثة القادمة.
هذا المقال هو صرخة… صرخة عقل، لا طائفية فيها، ولا كراهية، بل محاولة للقول إنّ من يغرق في المياه الراكدة لا يلوم التيار حين يجرفه.
البداية: تشير بعض الدراسات إلى أن ما يقارب 60 ألف شقة قد تضررت أو تهدمت كليًا بسبب الحرب الإسرائيلية على لبنان، وقد عانى الشيعة الأمرّين خلال مرحلة النزوح، إذ لم تكن هناك شقة واحدة شاغرة، حتى لدى الملاّكين الشيعة أنفسهم، حيث كانت غالبية الشقق مؤجّرة لسوريين. الأمر الذي اضطر العديد من العائلات الشيعية إلى دفع آلاف الدولارات لقاء إيجارات، فيما لجأ الباقون إلى افتراش المدارس.
السؤال المحوري: في حال اندلاع معركة جديدة مع العدو الإسرائيلي، لا سمح الله، أين سيلجأ النازحون الشيعة؟ علمًا أن النزوح السوري يشغل أكثر من 30% من عقارات لبنان، ويهيمن على نحو 50% من المصالح الصغيرة، بما فيها محلات البقالة والخضار والمهن اليدوية.
وفي سيناريو آخر أكثر خطورة، إذا ما تحوّلت سوريا إلى ساحة فوضى مشابهة لليبيا ـ كما حذر وزير الخارجية الأميركي ـ فكيف سيكون حال الشيعة في لبنان؟ خصوصًا مع وجود عدد كبير من النازحين السوريين بينهم، ينتمون لدولة، ولفصائل متشددة، ولرأي عام بالغ العدائية تجاه الشيعة، حتى بات من شبه المستحيل حتى زيارة المقامات الدينية الشيعية في سوريا دون تعريض النفس للخطر.
ثم تصرّيح المتحدثة باسم الخارجية الأميركية مورغان أورتاغوس بأن:”يمكن للبنان ان يتعلم درسًا من الشرع”
وتاكيدها “بأن الطريق إلى السلام والازدهار واضح وهو عبر نزع سلاح الحزب ليس فقط جنوب الليطاني بل من البلد كله
المقال:
ما إن هدأت عاصفة الانتخابات البلدية ورُسِمَت موازين القوى، حتى تبيّن أن القاسم المشترك الأبرز بين غالبية البلديات المسيحية هو ملف واحد: معالجة النزوح السوري.
ولا يقتصر هذا الحراك على المسيحيين فحسب، إذ يسجَّل أيضًا حراك درزي نشط، وإن كان بعيدًا عن الإعلام. هذا الحراك اشتدّ عقب الاشتباكات التي اندلعت في سوريا بين الدروز وبعض الفصائل الإسلامية المتشددة، مدعومة من بعض العشائر السورية، ما أودى بحياة عشرات الدروز. وبهدف منع تداعيات هذه المعارك من التمدد إلى احتكاك داخل لبنان، بدأ “العقلاء” في الطائفة الدرزية بمعالجة الملف عبر تشديد معايير السكن والتوظيف، ومنع الإيجارات غير القانونية.
أما داخل الطائفة المارونية، فقد لوحظ بوضوح تصاعد شعبية التيار الوطني الحر، الذي يبدو أنه وجد في ملف النازحين الوسيلة الأخيرة لإعادة رصّ الصفوف تمهيدًا للانتخابات النيابية. وهذا ما اثبته، ان احد شروطه الأساسية لدعم أي لائحة بلدية هو: معالجة ملف النزوح السوري.
ويرى مراقبون أن هذا الملف بات “الدينامو” الوحيد القادر على إعادة إحياء الخطاب الشعبي والتيار السياسي للتيار الوطني الحر، في ظل تراجع الملفات الأخرى.
ومع إعلان الرئيس ترامب رفع العقوبات عن سوريا، وما تبعه من إجراءات أوروبية مماثلة، بدأ الحراك المسيحي يأخذ بعدًا دوليًا منسّقًا، إذ يُعتبر هذا الملف اليوم من أخطر التحديات التي تهدد الكيان اللبناني: ديمغرافيًا، اقتصاديًا، وأمنيًا. وقد زاد من جدية الطروحات ما قاله وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو متوقعًا اندلاع “حرب أهلية شاملة” في سوريا خلال أسابيع.
ولم تقتصر التحركات على التصريحات، بل تجلّت في:
• في طليعة المواقف الرسمية، برزت مواقف فخامة رئيس الجمهورية اللبنانية العماد جوزاف عون، التي كانت الأكثر حضورًا، إذ لم تخلُ تصريحاته، سواء خلال لقاءاته مع الرؤساء والوفود أو على المنابر الدولية، من التأكيد على موقف لبنان الحريص على التنسيق مع دمشق، لا سيما في ما يتعلّق بملف النازحين السوريين، وضرورة تأمين عودتهم الآمنة والكريمة إلى بلادهم. وقد شدّد على ذلك مجددًا في مؤتمر صحافي مشترك مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.”
• الرئيس السابق ميشال سليمان، الذي اعتبر في تصريحاته الأخيرة أن “ليتنا نستطيع إقناع الإدارة الأميركية بتسهيل عودة النازحين السوريين”.
• بيان المطارنة الموارنة من بكركي، الذي رحّب برفع العقوبات عن سوريا لما له من أثر إيجابي على عودة النازحين وتخفيف الضغط عن لبنان.
• النائب جورج عدوان، حيث تفاعل معه كافة شرائح الجبل والشوف عندما تحدث : “الحكومة لا تقوم بواجباتها بالسرعة المطلوبة في ملف النازحين السوريين وما حدث في سوريا يجب أن يُستفاد منه في لبنان”.
• النائب ندى البستاني، خلال جولتها الامريكية تبين انه على راس اولوية زيارتها خلال اللقاء مع نواب وشخصيات رسمية امريكية هو ملف النزوح السوري.
• النائب بيار بو عاصي، اثناء زيارته العاصمة الفرنسية، حيث طغى على زيارته ملف النزوح السوري وشرح تداعياته الخطيرة على لبنان حيث اكد امام رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب الفرنسي برونو فوكس على: “وجوب عودة السوريين المقيمين بشكل غير شرعي في لبنان إلى بلادهم لما يشكل استمرار إقامتهم من خطر وجودي على لبنان”.
مقابل هذا الحراك المسيحي المنظم، يلحظ الجميع غيابًا شبه تام لأي حراك شيعي—سياسي أو ديني أو إعلامي—في هذا الملف.
وبما أننا لا نُعوّل كثيرًا على مواقف السياسيين والإعلاميين الشيعة في هذا الملف، فإننا نكرر دعوتنا إلى رجال الدين الشيعة، أسوة بالكنيسة المارونية، أن يكون لهم موقف واضح وجريء من هذا النزوح. لا من باب الكراهية أو الرفض الإنساني، بل من باب الواقعية والعقل وتطبيق القانون.
او اقله أن يصدر موقف رسمي عن الحكومة ورجال الدين في السورية بما يتعلّق بتصنيف الشيعة، كرد جميل للشيعة على تضحيتهم بنفسهم تجنبا لاثارة ملف النازحين السوريين،
لكن ان يبقى التحريض الديني الإعلامي السوري ضد الاقليات وتحديدا الشيعة من اجل كسب ود دول القرار، وتواجد ما لا يقل عن مليون نازح سوري في قلب مناطق الشيعة، فان هذا الامر خطير للغاية، والاخطر هو غياب الشيعة عن استشعار هذا الخطر.
تقول لغالبية الشيعة: ” الخطر الإسرائيلي حقيقي ووجودي وهناك خطر أميركي يقترب منكم.” تجد لا مبالاة”
تقول لهم: تشير كل الدراسات والإحصاءات أن الخاسر الأول من التغيير الديمغرافي بفعل النزوح السوري، هم الشيعة أنفسهم…ايضا: “لا مبالاة!”
بالختام حين تغيب الطائفة عن قضاياها المصيرية، فإنها تتحوّل إلى وقود في معركة لا تعرفها.
وحين يُصبح الموقف رهينة لا مبالاة، فإن الكيان الطائفي كله قد يُباد بصمت.
المقال يعبر عن رأي الكاتب وليس رأي الموقع، شكرا على المتابعة.