
بقلم: لبنى عويضة…
خاص: جريدة الرقيب الالكترونية
في طرابلس، المدينة التي تسكنها الوعود أكثر مما تسكنها الحقوق، لا جديد في أن ترى صفوفًا من الناس ينتظرون “معونة”. لكن الجديد ـ والمُهين ـ أن يُفرض على هذا الانتظار أن يتحوّل إلى مشهدية استعراضية، يُختزل فيها الفعل الإنساني إلى أداة بروباغندا، وتُعلّق على وجع الناس صورٌ تُسوّق الفاعل لا الفعل.
من المُهين أن نشاهد توزيع صناديق غذائية موسومة بصورة “المانح”، في وضعية متأنقة ونظرة محسوبة. ولا يمكن فصل هذا المشهد عن مناخ الاستعدادات الانتخابية غير المُعلنة، ولا عن ثقافة الزبائنية التي تُحاول إعادة إنتاج ذاتها تحت قناع العمل الخيري.
هنا، لا يكون الفقر مجرد حالة اجتماعية، بل يتحوّل إلى أداة في سوق العلاقات العامة، وتُصبح الحاجات الأساسية عملة يُشترى بها الصمت، والامتنان، وربما الولاء المُزيّف.
ما يُخيف في هذا المشهد ليس فجاجته البصرية، بل تطبيعه. أن يُصبح من المقبول أن تُوزَّع الإعانات مُغلّفة بصورة شخص، وكأن الفقير سلعة إعلامية، أو بطاقة انتخابية مؤجّلة. وكأن الكرامة ـ وهي آخر ما تبقى للناس ـ صارت قابلة للمقايضة مقابل رغيف خبز أو علبة زيت.
المدينة المنهكة، التي لم تذق طعم الدولة إلا في بيانات الوعود، لا تحتاج إلى هذا النوع من “الإحسان المشروط”. ما تحتاجه هو مشروع تنموي حقيقي، ورؤية اقتصادية تُخرج الناس من طوابير الذل، لا مبادرات فردية تُعيد إنتاج الفقر بوجه مبتسم.
العمل الإنساني لا يُقاس بعدد الصناديق الموزعة، بل بمدى احترامه لكرامة الإنسان، في زمن يفترض أننا نعيش فيه عصور “الحقوق الطبيعية”. تلك التي لا يجوز أن تُشوّه أو يُنتقص منها، مهما حاول البعض تزيين نواياهم.
وإن كان لا بدّ من الصور، فلتُعلّق على مشاريع البنى التحتية، على مراكز التدريب المهني، على خطط إنقاذ التعليم… لا على عبوة سكر أو كيس أرز!
في زمن التحلل المؤسساتي، لا عجب أن تتقدّم الشخصنة على السياسات. لكن الأخطر أن تُلبس هذه الشخصنة ثوب الرحمة. ففي ذلك اغتيال مزدوج: لكرامة الإنسان أولًا، ولوعي الناس ثانيًا.
لقد بتنا عاجزين عن التمييز بين الفعل الإنساني الصادق، والاستعراض السياسي المغلّف. لم يعد يكفي أن يتبرع البعض من فائض ثرواتهم، بل يصرّون على تحويل العمل الخيري إلى لافتة انتخابية مبطّنة، يُراد لها أن تُطبع في ذاكرة الجائع، قبل أن تملأ معدته.
ختامًا، ليس كل من يُطعم جائعًا فاعل خير؛ أحيانًا، يكون مجرد مستثمر في الجوع.