
خاص: جريدة الرقيب الإلكترونية
تمرّ الذكرى الثامنة والثلاثون على اغتيال رجل الدولة، الشهيد رشيد كرامي، رئيس الحكومة الذي لم يكن مجرد سياسي في زمن صعب، بل رمزاً لفكرة الدولة التي حلم بها لبنان. في كل عام، نستعيد صورته ونتذكّر رحلته، لكننا نغفل أحياناً أن اغتياله لم يكن نهاية رجل فحسب، بل لحظة فاصلة في مسار وطنٍ كان يسعى للاستقرار والتوازن.
لم يكن رشيد كرامي سياسياً عابراً في مشهد لبناني مضطرب، بل تجسيداً نادراً لما تعنيه الدولة حين تتجسّد في شخص. امتلك نبرة الحكمة في زمنٍ ارتفعت فيه أصوات البنادق، وحمل همّ المصلحة الوطنية كما لو كان يحمل عبء البلاد كلّها. لم يسعَ إلى السلطة حباً بالمناصب، بل إيماناً بأن الحضور في قلب النار قد يمنع الاشتعال الكامل. في حضوره، كانت السياسة تُصاغ بلغة الممكن، وفي غيابه، انفرطت خيوط التوازن.
حمل “الرشيد” على عاتقه أعباءً جسيمة في مراحل مفصلية، وكان صوته يعبر عن طموح لوطن يتجاوز الانقسامات. سعى جاهداً لربط خيوط الدولة في لحظات الفوضى والاضطراب، ولم يكن دوره محصوراً في السياسة، بل اتّسعت رؤيته لتحتضن المصالح العامة، مدركاً بدقة حساسية التوازن بين مكوّنات لبنان.
الاغتيال الذي أودى بحياته لم يكن خسارة شخصية فحسب، بل كان فقداناً لفرصة بداية مختلفة. فقد حمل مشروع دولةٍ يسعى إلى وحدة أشمل، ومستقبلٍ يتجاوز صراعات الماضي. وفي طرابلس، المدينة التي عرفها وأحبّها، رحل وترك فراغاً لم يُملأ. بكت غيابه، لا من باب العاطفة فقط، بل لأنها فقدت جزءاً من ملامحها السياسية والوطنية.
اليوم، بعد كل هذه السنوات، تبقى ذكراه حيّة، لا كتاريخ يُروى فقط، بل كدرس عميق في أهمية الحفاظ على أفكار التلاقي والتعايش. طرابلس ما زالت تحتفظ بإرثه بين جدرانها وشوارعها، أما لبنان، فيتذكّر أن من فقده، لم يكن رجلاً فقط، بل مشروعاً وطنياً بكامله.
كان يمكن للرجل أن ينجو، لو لم يكن يشبه فكرة. وكان يمكن للفكرة أن تعيش، لو لم تُختصر بجسد. لكنهما رحلا معاً في طوافةٍ لا تعرف الهبوط. ومنذ ذلك الحين، لا تزال المدينة تفتح نافذتها كل صباح كمن ينتظر رجلاً لم يعُد، وتكتب اسمه على جدران الوقت، لا لتتذكّره، بل لتقنع نفسها أنه لم يكن حلماً عابراً. رشيد كرامي لم يمت، بل تسرّب كالماء إلى ذاكرة الوطن، يسقي بقايا الحنين فينا، ويمضي.
في ذكرى غيابه، نستذكر أن الدولة ليست مؤسسات فقط، بل قيمٌ وأحلام. وأن الموت الذي غيّب رشيد كرامي، كان أيضاً صدمة لفكرة لبنان الذي نطمح إليه.
فهل لا يزال الحلم الذي سعى إليه “الرشيد” قابلاً للحياة؟ أم أننا، في كل ذكرى، نكتفي بتأبين الحلم بدل أن ننهض به؟