
| خضر طالب |
لم أكن من أنصار رشيد كرامي. كنت أحمل أفكاراً يسارية، كالغالبية من جيل الشباب آنذاك، حيث كنا نعتقد أن “النضال” يجب أن يستمر ضد “الزعامات التقليدية” و”الإقطاع” و”الوراثة السياسية”… لم أكن أعلم أن تلك الشعارات هي “عدة الشغل” السياسية. لم نكن منتبهين أن غالبية زعماء الأحزاب هم من “الزعامات التقليدية” ضمن أحزابهم، وأنهم ينتمون إلى “الإقطاع المقنّع”، وأن بعضهم ما كان له مكان في السياسة لولا أنه تبوّأ موقعه بـ”الوراثة السياسية” لـ”إقطاع حزبي”.
ولطالما كنت أنظر إلى رشيد كرامي باعتباره أحد رموز ذلك “الإقطاع”، وكنّا ـ كيساريين ـ نحمّل ذلك الإقطاع مسؤولية “النظام السياسي ـ الطائفي ـ الزبائني ـ الفاسد”…كانت “الأفكار الثورية” هي محرّك عقول جيلنا، وتُشعل فينا انتفاضة ضد “الزعامات التقليدية”، وكان رشيد كرامي واحداً من تلك “الزعامات”… إلى أن بدأت العمل في مهنة الصحافة، وتعرّفت إليه عن كثب، حيث بدأت تتساقط ـ تدريجياً ـ حجارة الجدار الفاصل مع شخصية “رشيد أفندي”، وسقطت الصورة التي رسَمَتَها “الأفكار الثورية” في عقلي عنه… وصولاً إلى تكوين قناعة جديدة تبلورت لاحقاً بشكل أعمق مع الرئيس الراحل عمر كرامي ثم مع نجله فيصل كرامي.
كانت مواقف رشيد كرامي الوطنية، ومنطق رجل الدولة الذي لم يتغيّر في أحلك المعارك السياسية والعسكرية، لها وقع كبير في نفسي.أذكر جيّداً، قبل نحو أسبوعين من اغتياله، عندما وقف على منبر “جمعية مكارم الأخلاق الإسلامية” في طرابلس، في عزّ الاشتباك السياسي العلني مع “الجبهة اللبنانية”، و”هاجم” الرئيس الراحل كميل شمعون بعبارات لم تخرج عن الأدب والإحترام، وكان “أعنفها” عندما توجّه إلى “كميل نمر شمعون” ليقول له إن “الحوار هو السبيل الوحيد للحل في لبنان”. كانت تلك الكلمات وكأنها “شيفرة” رسائل بينه وبين الرئيس شمعون حول مشروع اتفاق وطني لإنهاء الحرب آنذاك، وتم الكشف عنه لاحقاً بعد جريمة الاغتيال.
الكلمات الأخيرةيوم الأحد 31 أيار 1987. ثاني أيام عيد الفطر السعيد. الساعة الحادية عشرة صباحاً.
يجلس رئيس الحكومة رشيد كرامي على كرسي خشبي مقعده من “القشّ”، تحت ظلال شجرة معمّرة تتوسّط حديقة منزله الصيفي المتواضع في بلدة بقاعصفرين في الضنية.
حوله مجموعة صغيرة ممن يعتبرون من أصدقائه الشخصيين في البلدة التي ترتفع نحو 1200 متر عن سطح البحر، وتشكّل بوابة العبور إلى “جبل الأربعين” وإلى أعلى قمم لبنان “القرنة السوداء” التي تتصارع بلدتا بقاعصفرين وبشري على اعتبار “القرنة” ضمن نطاقهما البلدي.
لعلها من الصدف أن بقاعصفرين كانت مصيف رشيد كرامي، وأن بشرّي هي مسقط رأس “قائد القوات اللبنانية” سمير جعجع.على مسافة مترين فقط من الرئيس كرامي، يقف جميل الأيوبي، أحد المرافقين الذين أمضوا عمرهم مع رشيد كرامي.
ينتظر الأيوبي أي إشارة من “الزعيم” ليتحرك، على الرغم من معرفته أن هدوء “الأفندي” يعطّل رغبته في تلبية طلبات زعيمه.كنت قد وصلت قبل دقائق فقط إلى باحة منزل “رشيد أفندي” آتياً من طرابلس، وأرتدي قميص “نص كم”. لم يكن يخطر ببالي أنه في هذا الوقت من السنة سيكون الطقس بارداً إلى هذه الدرجة.
لكن تدفق الكلمات على لسان رئيس الحكومة “أدفأ” مهمتي كصحافي متعامل في جريدة “السفير”.
كنت أقف قريباً من جميل الأيوبي. وعلى الرغم من أني كنت أحمل مسجلة “كاسيت” التي كنا نستخدمها كصحافيين للتسجيل، إلا أني لم أجرؤ على استعمالها، ربما خشية أن لا تلتقط صوت الرئيس الهادئ وسط كثرة زقزقة العصافير التي كانت تهيمن على هدوء الباحة، فعمدت إلى كتابة ما يقوله في جمل صغيرة على ورقة سمراء من تلك الأوراق التي كنا نستعملها للكتابة في الصحف.حاولت عدم لفت نظر جميل الأيوبي، خصوصاً أن الكلمات كانت تنساب بهدوء على لسان الرئيس كرامي.
ما أزال أذكر إلى اليوم تلك العبارات: “المشاكل لا تُحلّ بالمدفع والبندقية.. لا بد من الحوار بين اللبنانيين.. مهما حصل لا بد أن نجلس مع بعضنا.. البلد بلدنا جميعاً…”.
لم أستطع إخفاء كتابتي للمواقف التي تتدحرج على لسان رئيس الحكومة، فالأيوبي كان فارع الطول، وكأنه “الرادار”، تنبّه لي وقال لرئيس الحكومة: “رشيد أفندي.. الصحافة عم تسجّل…”.طبعاً لم أكن أستعمل جهاز التسجيل، لكن عبارة الأيوبي تعني أنني أكتب ما يقول.
نظر إليّ رئيس الحكومة بهدوء شديد ثم ابتسم وقال لي بمودّة لافتة: “أنت من البيت، ونحن عم نحكي بين الأهل.. ما في داعي تسجّل الله يرضى عليك”.
أنا على ثقة أنه لم يكن يحفظ إسمي، كنت يافعاً وكان يعرفني بالشكل جيداً، فقد كنت أتولّى على مدى 5 سنوات تغطية نشاطه في منزله وفي مكتبه في كرم القلّة، وخصوصاً اجتماعات “هيئة التنسيق الشمالية” التي كان يرأسها في طرابلس.
بخجل شديد، طويت الورقة ووضعت القلم في جيبي وجاوبته: “على راسي دولة الرئيس”.
جلست على كرسي قريب، وشعرت بالحرج خصوصاً أنه صار يتحدّث باقتضاب.. دقائق قليلة قبل أن أقوم لأسلّم عليه وأغادر عائداً إلى طرابلس.
أبلغت مديري آنذاك الراحل بهاء المقدّم ما حصل معي، كان يعرف أني أتمتع بذاكرة شديدة ودقيقة، فأجلسني على مكتبه وقال لي “أكتب يلي سمعته”.
بدأت أردّد بصوت مسموع عبارات رشيد كرامي وأنا أقلّد صوته وأسلوبه في الكلام، وكان زميلي بهاء يستعجلني لإنجاز “الفرض”، لكن تقليد صوت وطريقة رشيد كرامي في الكلام ساعداني في تذكّر الكثير من كلامه.كان البرد الذي تسلّل إلى جسدي في بقاعصفرين قد بدأت نتائجه بالظهور بعلامات رشح قوي.. لكني تمكّنت من استعادة نحو 90 بالمئة من كلام رئيس الحكومة، وأنجزت صياغته وأعطيته للزميل المقدّم وغادرت المكتب وأنا أدرك أن المرض سيتمكن مني سريعاً.
في اليوم التالي، الاثنين في الأول من حزيران، التقينا ـ كعادتنا يومياً ـ الساعة السابعة صباحاً في مقهى “نغرسكو”، احتسينا القهوة وتوجهنا أنا ومديري إلى سراي طرابلس في جولة يومية استطلاعية تشمل المحافظ والقيادات الأمنية.
وفي خلال جلوسنا في مكتب قائد درك مدينة طرابلس آنذاك المقدّم مروان زين، (اللواء زين تولّى لاحقاً منصب مدير عام قوى الأمن الداخلي ثم عُيّن سفيراً للبنان في المملكة العربية السعودية)، لاحظ زميلي بهاء أن زين مرتبك فسأله عن السبب، فهمس قائد درك المدينة في أذنه ببضع كلمات كانت كفيلة بتغيّر لون زميلي بهاء الذي وقف على الفور وأشار إلي لنغادر. فور خروجنا من مكتب زين قال لي الراحل بهاء إننا سنتوجّه إلى “القصر”. كان تعبير “القصر” محصوراً بمكتب الرئيس رشيد كرامي في “كرم القلة” على بعد عشرات الأمتار من سراي طرابلس.
قلت له إن “الأفندي” في بيروت، فقال لي بقلق شديد: “وقعت الطيارة”… لم أستوعب الفكرة، لكننا كنا وصلنا إلى “كرم القلة”. الحركة عادية، لا أحد يملك أدنى فكرة عما حصل، فالأخبار كانت “طازة” ولم تكن قد وصلت إلى مكتب الرئيس… لكن ما هي إلا دقائق حتى وصل رئيس فرع مخابرات الجيش اللبناني في الشمال آنذاك العميد رشيد أفيوني.. كان ذلك يؤشر إلى شيء كبير قد حصل.. تباعاً بدأت تتوسع دائرة العارفين بالخبر، وبدأ الناس يتقاطرون إلى مكتب “رشيد أفندي” الذي لن يحضر أبداً.
لم أكن أعلم أني دوّنت آخر كلام سياسي لرئيس الحكومة الشهيد رشيد كرامي.. وقلّة هم الذين يعرفون هذه الواقعة، لكني أذكرها بكل تفاصيلها وكأنها حصلت بالأمس.
وأذكر تماماً أن البلد بعد اغتيال الرشيد قد تغيّر تماماً.
لم أفكر يوماً بالتقاط صورة مع رشيد كرامي.. ربما يملك بعض الزملاء صوراً لنا خلال مؤتمر صحافي أو خلال تغطية نشاط له. لو كان الـ”سلفي” قد اخترع في تلك السنوات لربما كانت لي لقطة واحدة على الأقل تجمعني معه، ولو من ضمن الإعلاميين الذين كانوا يواكبون “رشيد أفندي” ويلتقطون له الصور كلما تمكنوا من ذلك.
أذكر جيداً حرارة تلك الدموع التي انسالت على وجنتي بشكل عفوي.. أذكر أني انزويت في كرم القلة أراقب حالات الانهيار التي أصابت أولئك “المدمنين” فطرياً على حب “رشيد أفندي”.
بعد سنوات، جدّد الرئيس عمر كرامي منزل رشيد كرامي في بقاعصفرين، بعد أن أصبح متهالكاً… وعندما زرته لأول مرة بعد استشهاد رشيد كرامي، كانت المعالم قد تغيّرت كلها.. لكن المكان الذي كان يجلس فيه رشيد أفندي ما زال موجوداً… فتشت عن كرسي “القش”، فلم أعثر عليه، لكن ذاكرتي استحضرت مشهد ذلك اليوم الذي سبق الاغتيال، وتخيّلت لو أن كرسي “القش” حاضراً في تلك اللحظة، ولو أنه يستطيع الثرثرة معي، ونستحضر 31 أيار 1987 بكل كلمة نطقها رشيد كرامي بما تشكّله من “تعاليم” و”دستور وطني” للمؤمنين بأن لبنان وطن لجميع أبنائه، وأن الحوار هو السبيل الوحيد بين اللبنانيين، وأن أزمة لبنان هي “أزمة أخلاق” بالدرجة الأولى.. وغير ذلك ليس سوى ثرثرة سياسية طائفية شخصانية لا تبني وطناً واحداً موحداً.