
*في ذكرى رحيل العميد ريمون إدّه واستشهاد الرشيد، قبل 100 سنة لم يكن هناك شيء اسمه لبنان*
*بقلم ناجي علي أمّهز*
منذ أعوام طويلة، قبل أن تُولد ثورة الإنترنت وتتحوّل المعلومة إلى تغريدة أو صورة مفبركة، كان هناك شيء نادر اسمه “النخبة”.
في تسعينيات القرن الماضي، كنتُ أتنقّل بين مجالسها، مجالس أسبوعية تعقدها مجموعة من المتنوّرين في منازل كريمة، لا يجمعهم منصب ولا مصلحة، بل فكرة… وفكرة فقط. كنا فيها نستمع أكثر مما نتكلم، وكأننا نتنفس عبر آذاننا. وما أندر هذا النوع في زمن الطنين الدائم! كنا نكتفي بسماع ما تقوله العقول الثقيلة.
اليوم؟ لا أحد يصغي. كلٌّ ينفث رأيه كما لو أنه وحي منزل، و”اللايفات” وبرامج “التوك شو” تتصدر المشهد.
تخيّلوا، في هذا الطوفان الرقمي – مليار منشور، مليار رأي، مليار معلومة – لا تجد عشرة أفكار حقيقية تستحق التأمل.
نعم، عشرة فقط. لا أكثر.
ولو أنكم أدركتم حجم هذا الفراغ المعرفي، لعرفتم أننا نعيش اليوم في عالم مخدّر، مخدوع، مبرمج على البقاء في القشرة دون لمس لبّ الحقيقة.
في تلك المجالس القديمة، إن وُجد خلاف على فكرة، كان يُرجأ النقاش أسبوعاً كاملاً، شرط أن يأتي أحدهم بكتاب، أو قصاصة جريدة، أو وثيقة مهملة من أرشيف الزمن.
كان للمعرفة طقوسها، وكان للبحث صعوبة ولذة.
أما اليوم، فاكتب كلمتين، ودَع الذكاء الاصطناعي يريك نصف الحقيقة… مشوهة، معلبة، بلا روح.
دعوني أخبركم:
منذ 100 سنة، لم يكن هناك ما يُسمى “لبنان” بالمفهوم الكياني العميق.
كان هناك جبال، وخضار، وهواء، ومناخ معتدل… تلك صنيعة الله.
أما الكيان، الوطن، الدور، الدولة، الثقافة، المسرح، السياسة، فكلها صُنعت خلال 50 سنة مع بداية اعلان لبنان الكبير…
كان هناك رجال، رجال بكل ما تعنيه الكلمة.
رجالٌ صنعوا فكرة لبنان، بل اخترعوها، وحوّلوها إلى حكاية تستحق أن تُروى في كتب التاريخ.
رجالٌ كلمتهم تُسقط زعيماً؛ فالنخبوي، آنذاك، لم يكن “مثقف تويتري”، بل عقلٌ إذا دخل مجلس ملوك، جعل الملك يجلس على الأرض ليستمع.
النخبوي لم يكن يطلب سلطة، بل كان بإمكانه أن يجعلك تمرض بها أو تشفى منها بعبارة.
كلماته لا دواء لها. لا علاج لها. لا مناعة منها.
هؤلاء هم الذين صنعوا لبنان السياسي، لا التراب ولا الحدود.
هناك الكثير من الرجالات مثل ميشال شيحا وشارل مالك وجبران تويني، اضافة الى كمال جنبلاط.
ومن هؤلاء الرجال سامي الصلح، الذي قيل عنه “من بيروت كان يحكم المشرق العربي”. فالرئيس الصلح هو من أعطى للبنان معناه السياسي الإقليمي، وهو من ضغط على البريطانيين، والبريطانيون ضغطوا على الفرنسيين، حتى تم التخلي عن فكرة سوريا “الولايات الخمس”: سنة، شيعة، موارنة، دروز، علويون.
أما كميل شمعون، فهو الذي أسّس للبنان الصورة التي نُصدّرها اليوم للعالم: لبنان الفن، والمسرح، والهوية الثقافية. هو من جعل من الفن دعامة وطنية، لا سلعة ثانوية.
ومع فؤاد شهاب، دخل لبنان مرحلة “الاحتراف المؤسساتي”. قبل فؤاد شهاب، كان لبنان فكرة. معه، صار هيكلاً إدارياً قائماً على قواعد، لا على موازنات طائفية هشّة.
لكن بما أننا نكتب في ذكرى الشهيد رشيد كرامي… صوت الكرامة السياسية، الذي نستعيد ذكراه اليوم، لم يكن رجلاً يُدجَّن أو يُشترى. كان هادئاً كالرعد قبل العاصفة، وحاداً كالسيف في تطبيق دستور الوطن.
لم يساوم، فدفع حياته ثمناً للموقف.
لم يكن رشيد كرامي زعيمًا عاديًا، ولا رئيس حكومة كسائر من مرّوا على السراي الكبير، بل كان طرازًا خاصًا من رجالات الدولة، كأنّه سليل مدرسة نادرة انقرضت. رجل موقف، لا يساوم، ولا يبدّل جلدته تحت ضغط، ولا يغريه بريق السلطة ولا يسقط في وهم الشعبوية.
لا يوجد رجل في التاريخ السياسي كله يشبه رشيد كرامي الذي لم يساير يوماً من أجل موقف شعبي.
في زمن كان فيه لبنان يتأرجح على حبال الطائفية، ويترنّح بين زلازل الخارج وخيانات الداخل، وقف رشيد كرامي كالصخرة، عنيدًا، هادئًا، عميقًا، يُجيد الصمت كما يُجيد القول.
في عينيه كان الوطن، وفي كلماته كانت الكرامة، وفي خياراته كانت المصلحة العليا، لا مصلحة الطائفة ولا الزعامة. لذلك، أحبّته طرابلس واحترمته بيروت وخشيه الخصوم، لأنّه لم يكن يُدار بل كان هو من يدير، ولم يكن تابعًا بل كان صانعًا لمرحلة ومهندسًا لموقف.
اغتيل رشيد كرامي، لا لأنه كان يشعل فتنة، بل لأنه كان يطفئها. اغتيل لأنه كان يشكّل الخطر الحقيقي على مشاريع التقسيم والفوضى والدويلات. اغتيل لأنه بقي رجل دولة في وطن لم يعد يتّسع للرجال، بل لتجار السياسة ووكلاء الخارج.
واليوم، في ذكراه، لا نملك سوى أن ننحني أمامه، ونقول: كان هنا رجل من زمن الكبار… ومضى.
وأخيراً، ريمون إدّه، العميد العنيد، الذي مات في المنفى كي لا يرى وطنه يُنهش أمامه.
هذا الرجل، لم يكن يمارس السياسة، بل كان يُدرّسها. هو الذي نقل إلى لبنان مفاهيم الحراك السياسي، وفنون الصراع، وآليات صناعة القرار من خلف الستار. كان يدرك أن اللعبة السياسية أخطر من الحرب، فحاول أن يحصّن الوطن، لكنهم أدخلوه إلى مقبرة الأوطان بمفتاح “السماح”.
كان ريمون إدّه عميدًا لا بالوراثة فقط، بل بالكلمة والموقف، بالصلابة والنكتة، بالحدّة والابتسامة التي يعرف متى يخفيها ومتى يجعلها سلاحًا.
رجل سياسي من طراز نادر، إذا تحدّث أذهلك عمق معرفته، وإذا صمت أربكك حضوره، وإذا غضب أربك الجميع في الداخل والخارج،
من الأسرار التي لم تُنشر حرفيًّا، أن وزارة الخارجية الأميركية أوصت المبعوث “براون” — المكلّف آنذاك بإدارة ملف انتخاب رئيس الجمهورية اللبنانية عام 1976 — بأن يبدأ مهمّته في لبنان بلقاء العميد ريمون إدّه، وألّا يتجاوزه أو يتخطّاه، رغم إدراكهم المسبق لموقفه الرافض لدخول الجيش السوري إلى لبنان.
فقال براون لمسؤولي الخارجية: “أنا أعلم سلفًا أن العميد ريمون إدّه سيرفض هذا الطرح”، إلّا أن الإدارة الأميركية أصرّت، بل ألزمت براون أن يُجري هذا اللقاء، كي لا يظن العميد أنّ واشنطن قد تجاهلته أو تخطّته عمدًا.
ويروي العميد ريمون إدّه لاحقًا لأحد أصدقائه: “براون حاول أن يقنعني، وهو مقتنع تمامًا أنني لن أقتنع، لكنه أراد أن يُحمّلني وزر القرار، وأن يُقال لاحقًا إنني أنا من رفضت رئاسة الجمهورية، لا واشنطن. مع أن براون كان يحمل شروطًا يعلم جيدًا أنني سأرفضها، ولذلك تحديدًا أرادوا أن يكون الرفض من جهتي لا من جهتهم”.
العميد ادة كان يعرف أنّ السياسة ليست مجرد صراع، بل فنّ إدارة التوازنات، ورسم ملامح الكيان وسط عواصف الإقليم ومكر الداخل. لذا لم يكن يعارض لمجرّد العناد، بل لأنه يملك البديل والخيارات، وكان “عناده” مدرسة في المبدئية.
أحبّ لبنان كما يُحبّ رجلٌ امرأةً واحدة لا يخونها، ويُقال إن ذلك كان سبب عدم زواجه، ولم يقبل أن يراها مقسّمة، أو ممتهنة، أو على طاولة المقامرين. وكان يعرف تمامًا أن خسارته للمناصب هي ثمن طبيعي لربح كرامته، فاختار المنفى على أن يصافح الاحتلال الإسرائيلي أو يقبل بالوصاية السورية، وفضّل الغربة على أن يُستخدم في وطنه كدمية.
كان خفيف الروح، سريع النكتة، رغم ملامحه الجادة التي تشبه وجوه الجبيليين.
ريمون إدّه… رجل السياسة الذي كان خصومه يخشونه أكثر مما يكرهون مواقفه، لأنّه كان يخيفهم بفكر واضح، وموقف لا يُشترى، وكرامة لا تساوم.
رحل العميد، وبقيت السياسة يتيمة في حضرة من لا يعرفون النكتة ولا يجرؤون على الصراحة.
كلمة أخيرة
لبنان لم يكن يوماً تراباً وحدوداً ونشيداً.
لبنان كان نخبة.
واليوم، بعد أن ماتت النخبة او غيبت، لم يبقَ منه سوى صور وذكريات نرويها عن لبنان سويسرا الشرق.
رحم الله من صنعوا لنا وطناً من فكرة، ونحن اليوم نُبدّد الفكرة بحثاً عن وطن.