اخبار ومتفرقات

الضغط الأميركي على الرئيس برّي: الفصل الأخير لإخراج الشيعة من المعادلة السياسية

أصبحتُ على عتبة الخامسة والخمسين من عمري، وهي سنوات تعادل مائتي عام من التجارب السياسية، بسبب التصاقي بالنخبة اللبنانية، خصوصاً المارونية.

كنت أسمع عن اسم الوزير برّي من شخصيات سياسية منذ عام 1989، بسبب تواجدي في الحالة العونية، لكن أول من حدثني عن الرئيس نبيه برّي بطريقة عقلية سياسية اجتماعية هو مثلث الرحمة الأبّاتي الدكتور أنطوان ضو.

أخبرني، رحمه الله، عن أول لقاء جمعه بالرئيس برّي في بربور في “ثمانينيات القرن الماضي”، اثناء زيارة السفير البابوي إليه. وصف الأبّاتي ضو الرئيس برّي بأنه “نبيهٌ فعلاً، لماح، متوقد الذكاء”.

أول حديث مباشر لي حول الرئيس برّي كان عام 2000، قبل التحرير بفترة وجيزة، عندما زارني أحد السفراء اللبنانيين المثقفين المعروفين.

يومها، تحدث السفير بصورة عامة عن الشخصيات اللبنانية ذات التأثير الدولي. ولم يذكر الرئيس برّي، ما لفت انتباهي. فسألته عنه.

أجاب، وكأنه يتحدث عن إحدى أعظم الشخصيات السياسية في القرن العشرين، مشيدًا بنباهته وليونته السياسية الفائقة، مع ثبات هائل على الموقف.

وأنا متأكد أن كلام السفير لم يكن مجاملة، فالذين يعرفون عقلي يعلمون أنني أستطيع أن أسمع الأشخاص حتى أثناء صمتهم.

ومما لا أنساه وطبع في رأسي، كيف شرح السفير أسباب غياب الدور الشيعي عن الانتشار الدولي.

قال إن الفرنسيين اثناء الانتداب حاولوا ضمّ بعض المواطنين من مختلف الطوائف إلى جيشهم، وعُرض هذا الأمر على الشيعة (وكان الحديث هنا عن شيعة البقاع).

اجتمع أحد الضباط في قرية بقاعية تمرّ عبرها سكة القطار الحديدية، وقال للحاضرين: “من منكم يريد أن ينضم إلى الجيش الفرنسي مقابل مبلغ مادي (لنفرض خمس ليرات)؟ ومن منكم يفضّل العمل أجيرًا في سكة الحديد مقابل ثلاث ليرات؟”

فوجئ الضابط أن كل الحاضرين اختاروا العمل في السكة مقابل أجر أقل وعملٍ أصعب.

فهمت من حديث السفير أن لدى الشيعة في مورّثهم هذا النمط من الابتعاد عن كل ما هو غربي، وتمسكهم بالانتماء للوطن، مهما كانت التكلفة والتضحية عالية.

لذلك كانوا مكتفين بأصالتهم اللبنانية، ولم يوسعوا علاقاتهم الدولية كما فعل المسيحيين الذين انتشروا قبل 500 عام، وحصلوا على أهم المراكز السياسية والثقافية في العالم، ما منحهم هذا النفوذ الدولي. وكذلك الدروز والكثير من الشخصيات السنية.

بمعنى أوضح، فإن الرئيس نبيه برّي، مثل بقية الشيعة، ليس له علاقات دولية، ولا يتبع جهات خارجية، ولا ينسّق معها، بل فرض وجوده ودوره بقدراته السياسية، وحكمته، وحنكته، على الدول وفي الداخل.

أما ثاني حديث لي حول الرئيس برّي، فكان عندما دُعيت للقاء صغير حضره بعض النخب، نهاية عام 2002 أو بداية 2003.

كانت هناك شخصية سويسرية تتحدث حول السياسة العالمية والإقليمية، وقد ذكرت ان أهم شخصيتين في المشرق العربي، وهما الملك عبدالله ملك الأردن، والزعيم الدرزي وليد بيك جنبلاط.

أيضًا، لم يأتِ على ذكر الرئيس برّي، ما أثار استغرابي. ان يقدم وليد بيك جنبلاط كزعيم بحجم إقليمي، مع أن تلك الفترة كانت الوصاية السورية هي المسيطرة على الوضع اللبناني، ما منع بروز كثير من الشخصيات.

 

لكن، بعد خروج السوريين، وبدء الوفود الدولية تتقاطر للسلام على وليد بيك جنبلاط، وبعد كل ما حصل في المنطقة، خاصة في سوريا بسبب الجماعات التكفيرية، وكيف أن الدروز ظلوا محميين ولم يهجروا منذ عام 1948، وحتى في الحرب الأهلية اللبنانية، وفي الحرب السورية،…وكان هناك هالة خفية تحميهم.

 

عدتُ بالذاكرة إلى 2003، وفهمت لماذا قيل عن وليد بيك إنه الزعيم الأقوى في المشرق العربي.

 

وفهمت أيضًا أن الفضل في زعامة وليد جنبلاط ليس لسوريا كما يُشاع، كما فهمت سبب صداقة الرئيس برّي بالزعيم وليد جنبلاط، هذه الصداقة الأبدية… لأن وليد بيك جنبلاط هو صوت الرئيس برّي في المحافل الدولية.

 

هذه المقدمة أكتبها لفهم ما وصلنا اليه بعد ان مُنحت الطائفة الشيعية في لبنان فرصة تاريخية قد لا تتكرر، فرصة اجتمع فيها قطبان شكّلا معاً قوة لم نشهد لها مثيلاً:

القطب الأول، كان العقل السياسي المتمثل في الرئيس نبيه برّي ودهائه.

والقطب الثاني، كان الروح المقاومة التي تجسدت في شخصية الشهيد المقدس السيد حسن نصرالله، الذي عبر تأثيره الوجدان العربي والإسلامي، وسانده مد بشري مؤمن ودعم إيراني غير مسبوق.

هذان القطبان حققا معاً انتصارات كبرى على العدو الإسرائيلي عامي 2000 و2006، وعلى الجماعات التكفيرية لاحقاً. شعرنا حينها بأننا بلغنا المجد، وأننا أصبحنا قوة لا تُقهر. لكن في غمرة هذا الشعور بالمنعة، ارتكبنا خطأً قاتلاً: لقد فشلنا في بناء “القطب الثالث”، وهو النخبة السياسية والمؤسساتية القادرة على استدامة هذه القوة وتحويلها إلى مشروع راسخ ضمن الدولة.

لقد استسهلنا السياسة، واعتبرناها مجرد مناصب وزارية ونيابية، أو التقاط صور مع المسؤولين، أو إقامة ولائم يتباهى بها الأثرياء. نسينا أن السياسة الحقيقية هي فن الحوار مع الكبار، هي القدرة على فهم ما يريده خصمك لتعطيه إياه مقابل ما يخدم شعبك ووطنك. هي أن يفهم من أمامك أنك تفهمه حتى وهو صامت.

وبسبب موروث طويل، اعتقدنا أن المال هو أساس كل شيء. أصبحنا مستعدين لبناء بيوت فارهة ومراكز دينية تكلف الملايين، لكننا لم نكن مستعدين لدعم “أرخميدس سياسي” واحد ببضعة قروش قد تحمي مستقبلنا جميعاً. أصبح كل فرد فينا يظن نفسه خبيراً في السياسة الدولية وهو لم يغادر قريته، وينظّر في الإعلام والفيزياء وهو يجهل أبسط أبجدياتها. الذين يديرون العالم يعرفون أن الأمم لا تنهض الا بالحكمة والمعرفة والثقافة.

وها نحن اليوم ندفع ثمن هذا الإهمال. عند أول منعطف حقيقي، وعندما قررت الدول كسر الشيعة، فقدنا كل شيء تقريباً. لقد تم اغتيال القائد الرمز الشهيد السيد نصرالله، وسقط آلاف الشهداء من خيرة شبابنا، ودُمرت مدننا وقرانا، وعاد الاحتلال ليغتصب أجزاء من أرضنا. 

وفشلنا في الاعلام ولم يبقى الا الصوت السياسي الذي يمثله الرئيس بري.

ولهذا السبب، فإن الضغط الأمريكي عليه اليوم ليس مجرد مناورة، بل هو الفصل الأخير من الخطة. تدرك واشنطن أن الشيعة بعد أن فقدوا روحهم التي كانت متجسدة بشخصية السيد نصرالله، أصبحت أسهل احتواءً إذا تم عزل عقله السياسي. وهم يرون أن الرئيس برّي، في خريف عمره وبعد كل هذه الخسائر، لم يعد يملك عنفوان الشباب وصلابة الماضي. إنه يقاتل سياسيا على رقعة شطرنج محطمة. 

أعرف أن الكثيرين لديهم مآخذهم على الرئيس برّي ومن حوله، لكن حديثي هنا عن السياسة بمعناها المطلق. لانه مع خروجه من المشهد السياسي، تخرج الطائفة الشيعية من المعادلة السياسية اللبنانية، باصعب توقيت حيث يمزق المشرق العربي.

لذلك اتمنى ان يكون هناك حراك سياسي او انشاء رابطة شيعية تضم النخب السياسية من اجل ما هو قادم.

بقلم: ناجي علي أمّهز

المقال يعبر عن رأي الكاتب وليس رأي الموقع، شكرا على المتابعة. 

زر الذهاب إلى الأعلى