
في مكان ما بين الأثير والعدم، تلتقي روح شكسبير بروح هوجو على ضفاف نهر الخلود، حيث تتماوج أفكار العباقرة كالموج المتلاطم…
شكسبير: أتيتَ أخيراً يا صديق القرن التاسع عشر، لترتشف من كؤوس الحكمة التي طالما تناولتها الأرواح. ألا تعلم أن الخير والشر ليسا سوى وجهين لعملة واحدة تتقلب في مهب أهواء البشر؟ لقد نسجتُ شخصياتي من خيوط الظلام والنور، فكان “عطيل” ضحية الغيرة، و”ماكبث” أسير طموحه المُدمر… الشر يتسلل كالضباب إلى أنقى القلوب، ويُحوِّلها إلى جمرات من الرماد المتوهج.
هوجو: أيها الإنجليزي الذي طوَّع الحروف كما يطوِّع الساحر الأفاعي، لا تحصر الإنسان بين جدران القدر العاتي! أنا رأيتُ في “جان فالجان” كيف يمكن للروح أن تنفض عنها غبار الشر وتتسامى. الخير ليس مجرد وهم يتراقص في ظلال المستحيل، بل هو نبع يفيض من أعماق المستنقعات. لقد صوَّرتَ الإنسان كمسرح للصراع، بينما رأيته أنا ساحة معركة ينتصر فيها النور على الظلمة بعد عناء وألم وتمزق.
شكسبير: يا لك من حالم رومانسي! ألم تقرأ “هاملت” بعينين مبصرتين؟ “أن تكون أو لا تكون” ليست سؤالاً عن الحياة والموت فحسب، بل عن الطبيعة المزدوجة المتأصلة في كل إنسان. أنسجتُ الخير والشر كخيوطٍ متشابكة في النسيج البشري، يتعذر فصلهما دون تمزيق القماشة بأكملها. أما أنت، فقد جعلت من البؤس مرآةً للخلاص، وكأن الشر مجرد درجٍ للصعود نحو الفضيلة… ألا تدرك أن “ريتشارد الثالث” لم يكن مجرد وحش، بل كان انعكاساً للظلام الذي يسكن في أعماق كل إنسان؟
هوجو: عندما كتبتَ “العاصفة”، ألم تجعل من بروسبيرو رمزاً للتسامح والمغفرة؟ إن طريقي مختلف عن دربك، لكننا نقصد ذات الينبوع. أنت تغوص في أعماق النفس الفردية، بينما أجدِّف في بحر المجتمع المتلاطم. عندما صوَّرت شخصية “جافير” الذي يُغرق نفسه لأنه لم يستطع التوفيق بين القانون والرحمة، كنتُ أرسم الصراع الأزلي بين العدل المطلق والإنسانية. نحن نكتب بحبر مختلف، لكننا نخط على صفحة الروح ذاتها!
شكسبير: لعلك محق في أمرٍ واحد – أن الفن يتسامى فوق الوعظ البسيط. لم أكتب لأقول “الشر أسود والخير أبيض”، بل لأظهر تلك المناطق الرمادية التي تتخبط فيها الإنسانية. “ياجو” لم يكن شريراً فحسب، بل كان صدى للحسد الذي يتسلل إلى كل قلب. وعندما كتبتَ عن “كوازيمودو”، ألم تُرِنا كيف يمكن للقبح الخارجي أن يخفي جمالاً روحياً يتحدى أحكام البشر العمياء؟
هوجو: تحيةً لك أيها الطائر الأبدي الذي يحلق فوق عصور الإنسانية! نعم، لقد أردت أن أقول إن الخير ليس امتيازاً للجميلين والأثرياء، بل هو إمكانية قائمة في كل روح. عندما وصفتُ معاناة “فانتين” و”كوزيت”، كنت أنحت في صخر المجتمع صورة للظلم الذي يصنعه البشر بأيديهم. لكنك يا شكسبير، استطعت بعبقرية فذة أن تجعل “الليدي ماكبث” تغسل يديها من دماء لا تُرى إلا في عينيها، وكأنك تقول لنا إن الضمير هو المحكمة النهائية للخير والشر.
شكسبير: في “تاجر البندقية”، جعلت “شايلوك” يصرخ: “ألا أنزف إذا وخزتموني؟” لأقول إن الشر قد ينبت من بذور الظلم، وليس فقط من فساد الطبيعة البشرية. أراك تهز رأسك موافقاً – فلعلنا متفقان أكثر مما نختلف. نحن ننسج من خيوط الواقع أقمشة الحكمة، وندع القارئ يخيط منها رداء فهمه الخاص.
الدكتور فواز فرحات
المقال يعبر عن رأي الكاتب وليس رأي الموقع، شكرا على المتابعة.