
في زمنٍ انقلبت فيه الموازين، وغاصت الأرض في براكين الجنون، تقف أمريكا ككائنٍ أسطوري، تحاصرها لعنات التاريخ وتحسدها أعين العالم.
يكرهونها؟ نعم. يلعنون سياساتها؟ كل يوم. لكنهم في قرارة أنفسهم، يواصلون التطلع إليها كرمز لفرصة قد لا يجدونها في مكان آخر. لقد أصبحت الإقامة أو الجنسية الأمريكية لدى الكثيرين في عالمنا العربي، سواء كانوا حكاماً أم شعوباً، تعادل مفهوم الفوز بالجنة. وكم من شابٍّ في إفريقيا أو أمريكا اللاتينية يرى في الوصول إليها خلاصاً من واقعٍ مرير، حتى لو كانت الرحلة محفوفة بالمخاطر؟
لماذا هذا التناقض؟ لأن أمريكا ليست مجرد دولة على خريطة، بل هي في جوهرها فكرة. ليست عَلماً مرفوعاً فحسب، بل هي ميثاق ونظام وعقيدة قائمة على الحلم والفرصة والمساءلة.
قد تكون أمريكا هي الداعم الأول لأنظمة مستبدة أو المحرك لحروب كارثية، لكنها تبقى أيضاً المكان الذي يقدّم، على الأقل نظرياً، فرصة للمساءلة. ففي نظامها، حتى الرئيس لا يُعدّ فوق القانون، وإن حاول تجاوز صلاحياته، يواجه آليات عزل ومحاكمة قد تودي بمستقبله السياسي. بينما في أوطاننا، قد يُصفَّق للحاكم الظالم، ويُصفَع المواطن المظلوم، ثم يُغيَّب صوته.
لهذا، المهاجر لا يهرب من وطنه لأنه يكرهه، بل لأن وطنه خذله وتركه فريسة للفقر والقهر والظلم. يذهب إلى أمريكا لا حباً في سياساتها، بل بحثاً عن الأمان الذي توفره “الفكرة” الأمريكية.
واليوم، تقف هذه الفكرة على مفترق طرق وجودي تحت ظل سياسات ترامب المحتملة. خطابه الحاد ضد الهجرة ليس مجرد إجراء إداري، بل هو تهديد مباشر للبنية التي جعلت من أمريكا تجربة إنسانية فريدة. وهنا، يبرز سيناريو مقلق يطرحه بعض المحللين: أن إشعال صراع داخلي حول قضية المهاجرين ليس صدفة، بل قد يكون تمهيداً لإعادة صياغة العقد الاجتماعي الأمريكي بالقوة. عندما تنتشر الفوضى في الولايات، وينزل الجيش إلى الشوارع ليس للحماية بل للسيطرة، فإن الهدف قد يكون أبعد من مجرد ضبط الأمن.
قد يكون الهدف هو تمهيد الطريق لما هو أخطر: زعزعة الثقة في النظام الأمريكي بأكمله.
هذه الفوضى الداخلية، وهذا الصراع الأهلي المحتمل، لن يبقى حبيس الحدود الأمريكية. إنه سيبعث برسالة للعالم مفادها أن الحصن الأكثر استقراراً لم يعد كذلك. حينها، قد تفقد السندات الأمريكية جاذبيتها، وربما يكون “النظام العميق” نفسه هو من يسعى لهذه الفوضى الكبرى، ليعلن عن نهاية عصر الدولار والانتقال إلى العملات الرقمية أو “بطاقات النقاط”. عندئذٍ، ستكتشف شعوب الأرض أنها لا تحمل سوى أوراق لا قيمة لها، وقد لا يشتري المليون دولار كوب ماء.
وعندما ينهار الدولار، ستسقط معه اقتصادات ودول، وستجد الحكومات نفسها عاجزة. سيتحول العالم إلى طوابير طويلة تنتظر “كرتونة الغذاء” و”رقاقة الطبابة”، وحتى من نجح في الوصول إلى الحلم الأميركي، قد يُرفض عند باب توزيع الإعاشة لأنه “غير موثّق”.
لا تنظروا إلى خطط ترحيل المهاجرين على أنها مجرد قرار سياسي تعسفي. قد تكون المسمار الأخير في نعش النظام الرأسمالي الذي تجاوز قروناً من الهيمنة، ليحل مكانه بديل جديد يديره الذكاء الاصطناعي.
تعلم الإدارة الأمريكية علم اليقين أن المهاجرين الذين دخلوا أمريكا وقد دفنوا أوطانهم وراءهم، لن يرحلوا بصمت، بل قد يتسببون بفوضى عارمة تُسهّل مخطط انهيار “العالم القديم” الذي انطلق عام ١٧١٧.
لذلك، أمام ترامب وفريقه خياران لا ثالث لهما:
إما التراجع عن سياسات ستشعل حريقاً داخلياً يأكل الأخضر واليابس، ويبدو أن هذا القرار ليس بأيديهم.
أو المضي قدماً في هذا الطريق، والمخاطرة بالجلوس على عرشٍ من رماد أمريكا التي عرفناها، وهو ما يبدو أنه سيحدث، ليموت العالم القديم ويولد عالم جديد تحكمه تقنيات الجيل الخامس والذكاء الاصطناعي، عالم اكثر من سبعة مليار انسان لا يعرفون عنه شيء او كيف يدار او يكونوا شركاء فيه.
وأنصح بمراجعة مقالنا بعنوان “هل سحب الجيش الأمريكي من العالم تمهيدًا كي تأكل البشر لحوم بعضها؟”، المنشور بتاريخ 23-12-2018، والذي يطرح تفاصيل هذا السيناريو الذي نرى ملامحه تتحقق اليوم.
وما يحصل اليوم من انسحاب متسارع من الشرق الاوسط لكافة عوائل وغالبية الجنود الامريكيين، بسبب ما يقال انها الحرب على ايران، قد يكون هو المقدمة لعنوان المقال سحب الجيش الامريكي من العالم لتعمه الفوضى والانهيارات الاقتصادية.
المقال يعبر عن رأي الكاتب وليس رأي الموقع، شكرا على المتابعة.