اخبار ومتفرقاتاقلامالسياسية

طوبى للفقراء… هنيئًا للشهداء، رواية الشهيد محمد نون والخمسين دولارًا وبائع الورد.

طوبى للفقراء… هنيئًا للشهداء، رواية الشهيد محمد نون والخمسين دولارًا وبائع الورد.
بقلم: ناجي علي أمّهز

عندما قال السيد المسيح: “طوبى للفقراء بالرُّوح، فإنّ لهم ملكوت السَّماوات”، لم يكن ذلك سوى وعد سماوي لا يُردّ، وصوت إلهي لا يزول. لم يكن كلامه عزاءً، بل إعلانًا بأن الفقراء ليسوا من أهل هذه الأرض، بل من حرس السماء، هبطوا بيننا كي نتعلّم منهم، ثم يمضون كما جاءوا: صامتين، مُشعّين، خالدين.

هؤلاء هم الشهداء. ليسوا أمواتًا. لا تسألوا عن قبورهم، فهي مزروعة في وجدان الأرض، وسيرتهم منقوشة على جبين المجد. الشهداء لا يُبكى عليهم، بل يُروى عنهم كأنهم أساطير خرجت من كتب الأنبياء والقديسين.

كعادتي، يغلبني التعبير أمام هذا القدر العظيم الممزوج بالحزن. وأثناء تصفّحي لبعض الرسائل، توقفت عند واحدة تسألني إن كنت أنا “ناجي”. أجبتها، لأفاجأ بأنها ابنة خالتي، هويدا، التي لم أسمع عنها منذ أكثر من ثلاثين عامًا. وفور أن قالت: “أنا هويدا بنت خالتك نعمة”، عاد بي الزمن كرصاصة تخترق الحواس، إلى تلك الأيام الفقيرة، الغنية بالمودة والضحك والبساطة… أيام كنّا نقتسم كوب الشاي كأننا نقتسم النعيم، ونتصارع على ملعقة سكر كأننا نتقاسم عرشًا، ونجتمع عشرة أشخاص على ترويقة مؤلفة من “أوقية جبنة وجاط زيتون”.

حقيقة الفقر مؤلمة، لكنه قد يكون ثمن السعادة الحقيقية النابعة من صميم الروح التي تسكن السماء حين لا يكون لها على الأرض قصر.

لكنّ الرسالة التي مزّقتني لم تكن في كلماتها، بل في صورتها. صورة شاب، كُتب تحتها: “الشهيد السعيد محمد نون”. سألتها: “صورة من هذه؟”، قالت: “ابني… استُشهد”.

خنقتني الكلمات. كانت لهجتها صلبة كصخرة، وناعمة كنسيم. كانت حزينة لأنها أم، وفخورة جدًا. تحدّثت عنه كأنها تروي حكاية بطل أسطوري، لا كابنٍ رحل. قالت إنه كان يحب الحياة والعلم، ويخدم أهله ومحيطه، ويحلم. نعم، كان يحلم، وهذا يكفي ليكون المرء شهيدًا، فالشهداء هم الذين حلموا للناس، لا لأنفسهم.

أخبرتني أنه أُصيب وهو يُنقذ جرحى من تحت الأنقاض إثر غارة إسرائيلية على البقاع. لم يكن يحمل سلاحًا، بل قلبًا. لم يكن يحتمي خلف دبابة، بل خلف نُبله واندفاعه الإنساني.

في صباحه الأخير، طلب من أمه أن توقظه باكرًا، لانه يريد الذهاب إلى طبيب الأسنان. حضّرت له الفطور، وجهّزت له ثيابه، وودّعها كما يودّع القديسون أعمارهم. احتضنها كما يحتضن المرء الفردوس قبل أن يصعد إليه. على الطريق، مرّ ببائع ورد واستدان منه مئة دولار. أعطى أمه خمسين دولارًا، وقال: “هذه للبيت، وأنا أكتفي بالخمسين الأخرى”. أصرّت على ألا تأخذ منه شيئًا، فأجابها: “سأعود بعد الظهر”. لكنه لم يعد.

قالت إنه مرّ قبل رحيله بمكتبة، ودفع لصاحبها ثمن برواز، وقال له: “اكتب اسمي… الشهيد السعيد محمد نون”، ثم توجه إلى الجنوب. لم يكن في جيبه دولار واحد، لكن قلبه كان ممتلئًا بوطن، وروحه تسابق المسافة للقاء الله.

هكذا مضى، كما تمضي الفراشات التي لا تسكن إلا الربيع، وتموت حين تذبل الزهور. محمد لم يكن فردًا، بل أيقونة. كان صفحة من سِفر الخلود، تُفتح على دمعة أمّ، وتُقرأ في كل صلاة، وتُحفظ في قلب كل من بقي له ضمير ووطنية حقيقية.

على الرغم من جماله اللافت، لم يعشق محمد أو يحب، وحتى الفتاة الوحيدة التي مالت إليها مشاعره، كان يترك بينه وبينها مسافة كي لا تتعلق به كثيرًا وتحزن على فراقه الأبدي. لم يأتِ إلى عالمنا ليخرج منه مثقلًا بعذابات الناس، بل أتى ليقدم روحه، أثمن ما وهبه الله للإنسان، كي نعيش نحن أحرارًا ونتحدث عن أحلامنا بحرية.

هكذا يفعل الفقراء، يمنحوننا كل شيء. وهكذا يفعل الشهداء، يقدّمون لنا الحياة ثم يرحلون، بينما ننشغل نحن بالجدال في جنس الملائكة.

محمد نون… لم يمت، لأنه استشهد واقفًا، ومن يستشهد واقفًا، يحيا إلى الأبد.

طوبى للفقراء، لأنهم أغنى من مالكي الثروات.
وهنيئًا للشهداء، لأنهم وحدهم عرفوا معنى أن تحيا حرًّا عزيزًّا، وتفارق هذا العالم دون أن تُباع أو تُشترى.

سلامٌ على محمد، في الأولين والآخرين، في كل وردة وشجرة زرعها، وكل صرخة حقٍّ دافع عنها، وكل نفسٍ من تراب الجنوب… وكل أمٍّ بكت ولم تنكسر.

زر الذهاب إلى الأعلى