اخبار ومتفرقات

لماذا أعلن وليد جنبلاط تسليم السلاح؟ والسرّ الكبير لسلام الشرع مع إسرائيل

ليست المشكلة في السياسي حين يشيخ، بل حين يظنّ أن السياسة تشيخ معه، وأن اللعبة التي كان يملك مفاتيحها، ما زالت تُدار بالأدوات نفسها. وليد جنبلاط، الذي لطالما لعب على حافة التوازنات، أعلن فجأةً ما يشبه الاستسلام: لا نريد سلاحاً، نريد الدولة فقط.

لكن ما لم يُقله جنبلاط أهم بكثير مما قاله.

هذا التصريح ليس لحظة تراجع، بل لحظة إدراك. فقد فهم الرجل، الذي خبر دهاليز القرار الغربي، أن قواعد اللعبة تغيّرت، وأن حكومة الظلّ العالمية التي كانت تحكم عبر مراكز فكرية وأدوات ناعمة، بدأت تتفكك، أو على الأقل تُعيد تشكيل أدواتها.

فالعالم بات يرى أن كلّ من يحمل السلاح خارج منظومة الدولة، “كون الدول تخضع لمنظومات وتفاهمات اكبر”، هو مشروع تهديد. ومع انهيار المنظومة النيوليبرالية التي حملت مفاهيم العولمة والحرية، لم يعد هناك مكان للزعامات الرمادية. صار مطلوباً أن تختار: إمّا أن تكون مع السردية العالمية الجديدة، وإما أن تُركَن في أرشيف المراحل المنتهية.

 

ووليد جنبلاط لا يريد ان يورث نجله تيمور كل هذا التاريخ من الصراعات، لذلك قرر هو بنفسه ان يغلق كل صفحاته، وربما حتى ان يقصي الرعيل القديم عن التدخل في الجيل الجديد الصاعد الذي يختلف كليا عما عهده جنبلاط منذ 130 سنة حتى اليوم. ويترك لنجله تيمور مهمة العبور الهادئ إلى لبنان الجديد، الذي لا يشبه بشيء لبنان الطائف، ولا حتى لبنان الدوحة.

فالعالم الجديد اليوم يقوم على نظرية صدام الحضارات حيث لا وجود للاقليات الا التي تعيش بكنف دول تحميها:

يعتمد النظام العالمي الجديد على فرضية صموئيل هنتنغتون في “صدام الحضارات”، والتي تقوم على فكرة بسيطة لكنها قاتلة: يمكنك أن تكون نصف اشتراكي ونصف رأسمالي، لكن لا يمكنك أن تكون نصف يهودي ونصف مسيحي، ولا حتى نصف أرثوذكسي ونصف كاثوليكي. الدين ليس وجهة نظر، إنه انتماء غير قابل للانقسام. إما أن تكون… أو لا تكون.

من هنا، يصبح الدين جوهر الهوية، وأي صراع ديني لا يُحسم بالأخلاق، بل بالقوة. وبما أن تغيير الانتماء الديني مستحيل دون أن يصير الإنسان لا دينياً، فإن الحروب القادمة لن تكون أيديولوجية بل دينية خالصة.

ولإثبات صحة النظرية، أُطلِق الوحش. كانت “داعش” التطبيق العملي لصدام الحضارات. تُركت لتنفّذ النصوص المتطرفة كما هي، وحدث ما حدث: مذابح، تفجير كنائس، نسف مساجد، عودة سوق الرقيق، ومنع المرأة من العمل، بل وتحطيم كل ما له علاقة بالحضارة. داعش لم تكن سوى اختبار مختبري لنظرية هنتنغتون، والنتيجة كانت واضحة: المشرق لن يبقى فيه مكان للأقليات.

حتى الاقليات العربية، لم يعد لهم موقع في النظام العالمي الجديد. الغرب لم يعُد يخشى الجيوش العربية، التي كلّفت العرب منذ حرب 1973 نحو تريليوني دولار من غير أن تطلق رصاصة واحدة على عدو. بل إن ترامب وحده حصل في زيارتين فقط على ما يعادل إنفاق الجيوش العربية لأربعة عقود.

انتهى زمن الجيوش. وجاء زمن الاحتراب الأهلي، حيث كل شارع عليه أن يحمي نفسه، وكل حاكم يدفع ليبقى. لم تعد أمريكا بحاجة لبيع سلاح… يكفيها أن تبيع الوهم، وتأخذ المال، ومن يدفع أكثر… يحكم أكثر.

اما سلام احمد الشرع مع اسرائيل اليكم سره:

قبل عقدين من الزمن، سألت أحد أركان النخبة المسيحية عن موقع حافظ الأسد من مسار السلام، وهل كان بمقدوره أن يوقّع اتفاقًا مع إسرائيل؟

أجابني بهدوء العارف بالألغام:

“هناك فئتان لا تقدران على توقيع السلام مع إسرائيل، حتى وإن رغبتا بذلك: مسيحيو لبنان والنظام العلوي في سوريا.”

لم يكن السبب مبدئيًا، بل واقعيًّا حدّ الألم.

مسيحيو لبنان، رغم امتلاكهم سلطة رسمية، عاجزون عن توقيع اتفاقية سلام، لا لغياب الإرادة، بل لغياب القدرة على تحمّل النتائج. فالمنطقة ستنتفض عليهم، والمسلمون سيعتبرونهم طابورًا خامسًا. والأسوأ، أنهم لا يملكون أدوات القوة لفرض أو حماية هذا السلام. فهم أقلية، مهما علت مناصبهم.

وما ينطبق على مسيحيي لبنان، ينطبق على النظام العلوي في دمشق.

فأي اتفاق يوقّعه هذا النظام مع إسرائيل، سيُقدَّم كخيانة كبرى، وسيُحرّض عليه الداخل والخارج، ويُفتح الباب واسعًا أمام انتقام تاريخي قد يهدد وجود الطائفة بأكملها.

ثم أضاف بتجرد حاد:

“إسرائيل لا تبحث عن سلام مع الأقليات، بل مع الأكثريات السنية.”

فحين يوقّع رئيس أو ملك سني، كما فعل أنور السادات أو الحسين أو حتى ياسر عرفات، لا يستطيع رجال الدين نسف الاتفاق أو تحريض الجماهير ضده، لأن الاتفاق يحمل طابع الأغلبية، لا الاستثناء.

أما إذا وقّع الأسد، فسيسقط على صليب المزايدات.

والمفارقة أن من سيخلفه – إذا كان سنيًّا – لن يجرؤ على توقيع سلام، لأن شرعيته ستقوم حينها على نقيض الأسد، أي “أنه لم يخن القضية”.

لذلك، تنتظر إسرائيل سقوط الأسد، لتأتي ببديله الذي يوقّع ما عجز هو عن توقيعه.

وهذا بالضبط ما نراه اليوم، حين يتقدم “رجال النظام السني الجديد في سوريا”، نحو مشروع “السلام مع اسرائيل”، فانه لن يكون كخيانة… بل كواجب مؤسّس وستقدم له كافة التبريرات الدينية والسياسية.

المقال يعبر عن رأي الكاتب وليس رأي الموقع، شكرا على المتابعة.

زر الذهاب إلى الأعلى