
أحيانًا تعجز الكلمات عن ملامسة عمق الشعور الذي يعتصرنا حين نصطدم بواقعٍ غارق في التهديدات—تهديد لأمننا الشخصي، وأمن عائلاتنا، ووطننا. لكن، ورغم كل هذا السواد الذي يتسلّل إلى أيامنا، لا نزال نتمسّك بخيط الأمل، كمن يتمسّك بخشبة نجاة في بحر هائج.
لا نملك رفاهية اليأس، لأننا استنفدنا كل أدوات الصمود الممكنة، وبقاؤنا لم يعد فقط مقاومة، بل إيمان بأن قيامة لبنان ممكنة، وأن هذا الوطن الذي نحبّه، لا يموت بسهولة.
وبرأيي، لن نخرج من هذا الجنون السياسي والمعيشي والأمني إلا حين نكسر المنظومة الفكرية الطائفية التي رسّخها النظام والمصالح والجهل على مدى عقود. لقد آن الأوان لنتجاوز تلك القناعة المسمومة التي تجعل البعض يظن أن “الآخر” الديني هو سبب البلاء.
لو كانت هذه الفرضية صحيحة، لما رأينا ذاك المشهد الذي يُبكينا ويُعزينا في آن—لبنانيون ولبنانيات من كل الخلفيات الطائفية والدينية يقفون صفًا واحدًا في الشارع، يواجهون القهر والجوع والذل معًا. البعض يقول إن هذا تمثيل، وأنا أراه الحقيقة الوحيدة الباقية في هذا الوطن الممزق.
وفي خضمّ هذا اليأس، تلوح أمامي صورة غير مألوفة…
باصات نقل مشترك تتنقل على طرقات لبنان، تعبر من منطقة إلى أخرى، من طائفة إلى أخرى… قد يراها البعض مشروع “بيزنس”، أما أنا فأراها قرارًا سياسيًا بامتياز. فأن تعود هذه الباصات لتربط المناطق ببعضها البعض بعد أن كانت محظورة لعقود، لأسباب يعلمها فقط “يعقوب”، هو مؤشر يستحق التوقف عنده.
هذا الربط بين المناطق ليس مجرد مواصلات… إنه خيط حياة، دعوة ناعمة لأن نكسر جدران العزل الطائفي والمناطقي التي رسّخها النظام، لتُصبح بيروت متداخلة مع صيدا، وطرابلس مع بعلبك، والشياح مع الأشرفية. إنها فرصة ذهبية لإعادة نسيج الوطن الواحد الذي حاولوا تقطيعه منذ الحرب الأهلية.
دعونا نعيش في مناطق بعضنا البعض، نختلط، نحب، نختلف، ونتفاهم كأبناء وطن واحد. دعونا نوقف الكانتونات القاتلة، تلك التي دمّرت المدن، ونفخت في العقول أحقادًا لا تشبهنا ولا تشبه لبنان.
وإذا كان العبث بأمننا ولقمة عيشنا وأحلامنا يتمّ على يد من يتقن اللعب على وتر الطوائف والمناطق، فلنتعلم نحن عزف لحن جديد—لحن الوحدة، لحن الوعي، لحن الدولة المدنية العادلة التي لا تخاف من الاختلاف بل تحتضنه.
في هذه المرحلة المفصلية من تاريخ لبنان، لا نحتاج أبطالًا خارقين، بل نحتاج أصحاب ضمير وحنكة وشجاعة. رجالًا ونساءً يفهمون إيقاع هذه المرحلة الإقليمية والدولية، يتخذون قرارات جريئة في الوقت المناسب، ولو كانت مجازفة، ولكنها تخدم مصلحة لبنان العليا. نحتاج من يمتلك سرعة البديهة، ورباطة الجأش، وسِعة القلب، ونظافة اليد.
وإن وجد أحدٌ مثل هذا، أرجوكم، أرسلوا لي سيرته الذاتية. فنحن في أمسّ الحاجة إليه.
وفي غياب هؤلاء، لا نملك سوى أن نتضرّع إلى الله أن يحمي لبنان من الذين خانوه، وأن يلهمنا جميعًا كيف نحميه ممن ينهبونه.
كلنا مسؤول، كلنا مدعو للقيام بشيء… ولو كان صغيرًا.
يسعد صباحكم حبيباتي
خلود وتار قاسم
28 حزيران 2025
المقال يعبر عن رأي الكاتب وليس رأي الموقع، شكرا على المتابعة.