
كنّا صغارًا، وكان العيد بالنسبة لي ولإخوتي حدثًا ننتظره من العام إلى العام… لم يكن مجرد يوم، بل مهرجان فرح نرتّب له في خيالنا قبل أسابيع.
العيد كان يعني لنا ملابس جديدة نضعها بجانب السرير قبل النوم، نحدّق فيها بحماس وننام على أمل أن نستيقظ في عالم أجمل.
كنا نحتفي بـ”العيدية” كما لو أنها كنز، نفرح بلعبة بسيطة، ونشاهد عروض السينما المتواصلة من العاشرة حتى السادسة مساءً وكأننا نعيش حلمًا لا ينتهي.
كنا نأكل بركة الخبز ولا نرمي شيئًا. كانت جدّتي “أَنَّ” – رحمها الله – تقول لنا بلهفة قلبها:
“كل حبّة رز فيها مية مرّة من سورة الإخلاص… إيّاكم ترموا الرز!”
كبرنا، وتغيّر كل شيء…
اليوم، نرمي الطعام من فوق موائدنا الفاخرة في الزبالة، بلا وجل ولا امتنان.
نشتري ملابس لا نلبسها، وهدايا لا نُقدّرها، ونُسرف في التفاصيل التافهة، فقط لإرضاء وهم الصورة والمظاهر.
أطفالنا لم يعودوا يفرحون بهدية العيد، لأنهم يحصلون على كل شيء طوال الوقت.
أصبحنا نخاف على “نفسية الأولاد” إن لم نخطط لهم “Activity” كل يوم! وكأننا مسؤولون عن تسليتهم لا عن تربيتهم…
تغيّرت ثقافة العصر، فأصبح الطفل لا يفرح لأنه لم يتعلّم الانتظار.
والأهل، بدلًا من أن يكونوا مرجعًا للقيم، أصبحوا عبيدًا لمظاهر مجتمع يُقاس فيه الإنسان بثمن صباطه لا بعمق فكره.
حتى بعض الأمهات، لا يجدن مانعًا من هجر بيوتهن إن لم يتحقّق لهنّ ما يرغبن به من كماليات…
وبات بعض الآباء يهتمّون بآخر صيحات الهواتف والسيارات أكثر من اهتمامهم بصحة أولادهم النفسية.
انهارت القيم، وتشقّقت العائلة، وسقطنا.
صرنا شعوبًا تتسابق على من يرتدي أغلى فستان، بينما آلاف العائلات لا تملك قوت يومها.
أصبحت “الشهامة” موضة قديمة، و”السؤال عن الجار” عادة من الماضي، و”الكرم” صار في المناسبات المصوّرة فقط.
وتبنّينا أقوالاً غريبة عنا، مثل:
“بعد حماري ما ينبت حشيش”
“إذا شفت الأعمى طبّه، مالك أرحم من ربّه”
أقوال سمَّمت قلوبنا واتسمنا بالأنانية والخراب.
نعم، تسلّل السرطان إلى بيوتنا. لم يعد مرضًا جسديًا، بل أخلاقيًا.
سرطان الغرور، التباهي، الاستعراض، والتلهي بسفاسف الأمور حتى فقدنا هويتنا.
وفيما نحن ننهار من الداخل، ثمة شعوب أخرى تركض لبناء ذاتها بهدوء، ببساطة، بإرادة.
لم يسخروا من القيم القديمة… بل اعتمدوا عليها أساسًا للنهوض.
واليوم، ها نحن في القاع.
الذئاب تتربّص بنا، والجزّارون يتسابقون على من يذبحنا أولًا.
وقد يكون ذبحنا “حلالاً” لأننا استسلمنا، وتخلّينا عن أنفسنا، عن كرامتنا، عن إنسانيتنا.
لكن…
من زاوية أخرى، أرى نورًا في آخر هذا النفق.
ربما، ما نمرّ به هو فرصة ربّانية لإعادة النظر في كل شيء… في سلوكنا، أولوياتنا، قِيَمنا، وهويتنا.
ربما أراد الله أن يوقظنا.
ليعود الإنسان فينا إنسانًا.
ليعود الجار إلى جاره.
لتعود العائلة عماد المجتمع.
لتُصبح الأخلاق هي المعيار لا بطاقة الائتمان.
لربما، هذه فرصتنا… وأنا وأنت مدعوّان لنغتنمها.
لنبني من جديد… الإنسان، والعقل، والقلب.
والخطوة الأولى؟
ليست شعارًا…
بل حقيقة واحدة:
الاتحاد هو الطريق الوحيد للخلاص.
خلود وتار قاسم
المقال يعبر عن رأي الكاتب وليس رأي الموقع، شكرا على المتابعة.