

برعاية نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى العلامة الشيخ علي الخطيب وحضوره، تم مساء الإثنين المنصرم إحياء اليوم الخامس من محرّم الحرام، في مقر المجلس، طريق المطار، بحضور حشد من علماء الدين والشخصيات السياسية والقضائية والعسكرية والتربويّة والثقافية والاجتماعية والمواطنين. وقد قلدني المنظمون في هذه المناسبة شرف اعتلاء المنبر الحسيني لإلقاء الكلمة المعهودة من وحيها. فكانت كلمتي، بلا مزيد من المقدمات، كما أوردتها الوكالة الوطنية للإعلام، التالية:
“بعد التحية، اسمحوا لي أن أعلن بلا مواربة أني، شخصياً
مسيحي مؤمن (وإن كنت في الحقيقة غير متدين بالمعنى الشائع للكلمة)، وأجاهر تالياً بأن السيد المسيح هو مثالي الأعلى وقدوتي في كل ما أفعله. ومع ذلك، لا أرى ضيراً من المجاهرة أيضاً بأني، في آن واحد، حسيني حتى انقطاع النفَس.
فهل مرد هذا التصريح المزدوج إلى انفصام في شخصيتي؟ أم هو مجرد ثرثرة من النوع الواسع الانتشار، وللأسف، في بلادنا: ذاك النوع الذي، عادةً، لا طائل تحته من قبل المتكلم، متى كان مسيحياً يخاطب جمهوراً مسلماً، أو مسلماً يخاطب جمهوراً مسيحياً، سوى مجاملة المستمعين إليه والتودد إليهم بمعزل عن كل قناعة؟! “.
“إن أحد هذين الاحتمالين هو على الأرجح ما يميل إلى الأخذ به ـ وهو يستمع إلى تصريحي هذا ـ من لا يعتقد أن بإمكان الإنسان أن يكون مسيحياً وحسينياً في آن، ويكون في الوقت نفسه صادقاً في الإعلان عن هويته هذه وسَوِيَّ الشخصية. ولكن ما أنا ذاهب إليه في هذه الكلمة المقتضبة، أقله في مرحلة أولى منها، هو، بالعكس، محاولةُ لثبت النقيض التام لكلا الاحتمالين.
بيد أن هذا لن يكون كل شيء. ذلك أنه انطلاقاً من ثبت ما تقدم، سوف تنكشف أمامنا أبعاد أخلاقية جامعة لنا كمسيحيين ومسلمين من أتباع الحسين ومريديه، يمكننا التأسيس عليها لإصلاح أحوالنا الوطنية بمفاهيم جديدة. وإلى هذه الأبعاد بالتحديد سأعود، باقتضاب طبعاً لضيق الوقت المتاح، في مرحلة ثانية من هذه الكلمة”.
“أما المقاربة التي سأعتمدها لهذه الغاية، فهي لا تندرج في نطاق اللاهوت والفقه، وإن كان لا يسعها إلا أن تأخذ في الحسبان المعطيات اللاهوتية والفقهية لكلا الدينين، بل في نطاق أنطربولوجيا الدين وفلسفته. فهي، بكلام آخر، حين تنظر إلى المعتقدات التي يعتنقها المؤمنون في كلا الدينين، إنما يقتصر جهدها على تلمس مدلولاتها الرمزية، فضلاً عن ارتداداتها على سلوك هؤلاء، دونما تنطح البتة لتقييم مضامينها (عنيت مضامين المعتقدات) على أي صعيد كان، خصوصاً بمعايير الصح والخطأ.
وهي إلى ذلك، لعلم الحاضرين الأكارم، المقاربة نفسها التي كنت قد اعتمدتها لإعداد أطروحتي الدكتورالية، تلك الأطروحة التي تمت مناقشتها، خريفَ 1980، في جامعة السوربون بباريس، وكانت للمناسبة في موضوع الدين والعلمنة، وقد نلت على أساسها شهادة الدكتوراه في الآداب والعلوم الإنسانية. ثم كان أن صدرت لي، بلغتها الأصلية ـ عنيت الفرنسية ـ عن منشورات الجامعة اللبنانية، سنة 1984، في كتاب بعنوان مدخل إلى دراسة الدين والعصرنة(بالفرنسية: Introduction à l’étude de la religion et de la sécularisation)
فماذا بالتالي، بدايةً، عن المقارنة الموعودة بين سيرتَيّ السيد المسيح والإمام الحسين؟ للإجابة عن هذا السؤال، أمامي جدول مقارن أعددته لهذه الغاية، سوف أقرأه، باختصار طبعاً، ثم أعلّق عليه. وغني عن البيان أن المضامين المدرجة في هذا الجدول لا مصدر لها سوى التعاليم المعتمدة رسمياً، في كلا الجهتين، حول الرمزين الساميين.
جدول مقارن. بين المسيح والحسين في التماثل والاختلاف
الموضوع
السيد المسيح
الإمام الحسين بن علي
من هو؟
المسيح، هو الله المتجسد في إنسان، إذن هو القدوس بعينه، وصانع الأعاجيب، ولكنه بالقدر نفسه إنسان أيضاً
هو في الجوهر إنسان الحسين، استثنائي ذو هالة قدسية، ولكنه إنسان فقط، وليس إلهاً
مصدره؟
المسيح، له أم بشرية هي العذراء مريم، التي تجسد منها، ولكن ليس له أب بشري (والصديق يوسف هو مربيه فحسب)
الحسين، له أب بشري هو الإمام علي، وأم بشرية هي فاطمة الزهراء، ابنة رسول الله النبي الكريم محمد ـ وهنا منبت قدسيته
رسالته؟
المسيح، تحرير الإنسان من الخطيئة الأصلية، وهدايته إلى الله المحبة، فضلاً عن نقض الاتجار بالدين (”إعطاء ما لقيصر لقيصر وما لله لله“، مشهد السوط الذي جرّده بوجه التجار والفريسيين في الهيكل اليهودي: ”بيتي بيتاً للصلاة يدعى، ومغارةً للصوص جعلتموه“)
الحسين، ثورة على الظلم واغتصاب الحقوق ومفاسد الأخلاق والغدر والانقلابات على العهود والمواثيق المقترفة جميعاً من قبل يزيد، الحاكم الأموي، وتحقيق الإصلاح في أمة جده، بإعلاء كلمة الحق وإقامة العدل فيها
منبت الرسالة؟
المسيح، أمر رباني
الحسين، إيمان عميق بواجب يتعين عليه النهوض به، بحكم موقعه كسبط للنبي الكريم، مؤتمن على حفظ ميراثه
وسيلة تحقيق الرسالة؟
المسيح , التضحية بكل شيء وصولاً إلى بذل الذات على الصليب (لا استعانة بالسيف بوجه الآخرين: هذا ما نهى عنه بطرس الرسول في بستان الزيتون حين أتى الجنود، برفقة التلميذ الخائن يهوذا الإسخريوطي، للقبض على يسوع)
الحسين، مماثلة، على رغم الفارق في النظرة إلى الاستعانة بالسيف: لا تراجع عن الحق والقتال في سبيله حتى الاستشهاد في واقعة الطف بكربلاء، مع أهل بيته وثلة من أصحابه (وعددهم، تبعاً لتضارب الروايات، بين 75 و150 شخصاً بين ذكر وأنثى)”.
أضف :”موقف الأتباع وموقفه؟
المسيح، تلامذته الأقربون تخلوا عنه وهو في طريقه إلى الجلجلة، وكبيرهم بطرس أنكره ثلاث مرات قبل صياح الديك، ومع ذلك فقد استمر حتى النهاية
الحسين, الذين دعوه إلى الكوفة ليبايعوه على الخلافة، خذلوه وتخلوا عنه بعدما استجاب لدعواتهم، ولكنه لم يتراجع، بمواجهة جيش أموي جرار، إذ لا معنى عنده للبقاء من دون الحق
المآل النهائي؟
المسيح، في اليوم الثالث بعد صلبه، قام من بين الأموات، وبعدها بأربعين يوماً صعد إلى السماء، وفي آخر الزمان سيعود ليجازي كل إنسان حسب أفعاله (مفهوما الحق والعدل)
الحسين، ليس في السيرة الحسينية ما يقابل حدث قيامة المسيح بعد موته على الصليب ودفنه… ولكن هناك عودة مربوطة ضمناً باستشهاده: هي عودة المهدي المنتظر الذي، حسب بعض الروايات، سيأتي في آخر الزمان، يده بيد المسيح بالذات، ليبيد الظلم على الأرض ويقيم العدل بين البشر
الملاحظات التي يمكن سوقها على هامش هذا الجدول
هي أربع رئيسة:
أولاً. في ما يتعلق بمضامين الجدول، كمضامين، قوامها، بالمختصر، خلاصة ما تعلِِّمه الكنيسة حول السيد المسيح، من جهة، والسيرة الحسينية حول الإمام الحسين، من جهة أخرى، وبالتالي ما يُفترَض أنه مضمون الإيمان عند المؤمنين في هذه الجهة وتلك، بلا تحريف ولا تأويل.
ثانياً. في ما يتعلق بقيمة هذه المضامين، ليس المجال هنا لمناقشتها في جوهرها، بل فقط لثبتها وأخذ العلم بأنها عند المؤمنين بها، من المسلَّمات غير القابلة للنقد، ولا للمراجعة. وبالتالي، لأنها كذلك، وبالنظر إلى ما يرتبط بها عندهم من عواطف وطقوس، فهي مواضيع محفزة لهم على العمل تبعاً لمندرجاتها السلوكية.
ثالثاً. بقطع النظر عن التحفظ الآنف، بالمقارنة ما بين الرمزين العظيمين، نرانا بإزائهما أمام طبيعتين هما معاً على تباين تام وغير قابل للاختزال. فهما، من جهة، إله مقدس، ومن جهة أخرى، إنسان استثنائي ذو هالة قدسية؛ هذا يبيح اللجوء إلى السيف، ولكن في موقع الدفاع وحسب، لحسم الخلافات، وذاك يستبعده ويستبعد حتى اللجوء إلى العنف إلا عند الضرورة القصوى (صورة المسيح في الهيكل وهو يوبخ ويضرب بالسوط موبخاً: ”بيتي بيتاً للصلاة يدعى، ومغارةً للصوص جعلتموه“)؛ هذا له زوج وأولاد وما إلى ذلك من مكونات العائلة، ولكنه يضحي بها جميعاً، كما بنفسه من أجل الإصلاح، من أجل الحق والعدل، وذاك لا زوج له ولا ولد ولا أي عائق دنيوي كان ليعيق صعوده إلى ”مملكته“ (”مملكتي ليست من هذا العالم“)، وهو ماضٍ إلى الجلجلة مجرجراً صليبه بثبات، لبذل الذات على الصليب، إطاعة لمشيئة الآب السماوي، ومحبةً لبني البشر.
رابعاً. على رغم كل ما بينهما من تباين، يبقى التطابق ما بين الشخصيتين تاماً حول نقطتين مركزيتين:
تمسك كليهما بقضيته، لطالما هي قضية حق، لا بل القضية الحق، تمسكاً لا رجوع عنه، والمضي في الدفاع عنها بوجه أعدائها، مهما اشتدت الأخطار، حتى الشهادة؛
اعتبار أن الموت ليس نهاية، بل مجرد عبور إلى حياة أبدية، تعقبه في منتهى الدهر عودة تقيم العدل على الأرض وتعيد وصل الأرض بالسماء إلى ما لا نهاية.
وبالتالي، على امتداد هاتين النقطتين إنما يتطابق النموذجان السلوكيان من حيث الدلالة والبنية إلى أبعد حدود الممكن، على رغم ما بينهما، في الحقيقة، من تباينات كبرى غير قابلة للاختزال.
بعبارات أخرى، صحيح أن ما يعيشه المسيحي والشيعي الحسيني في حيّز المعاش الديني، هو تجربتان مختلفتان كل الاختلاف من حيث المضامين الإيمانية وخلفياتها ورمزياتها والطقوس المتصلة بها وكل ما يرتبط بها جميعاً من عوامل التحفيز لهما وتأطير حركتهما، كلاً، في الوجهة التي يحضّه دينه على المضي فيها. ولكن النموذج السلوكي القدوة ـ المسيحي من جهة، والحسيني من جهة أخرى ـ المفترض بهما تمثله والاقتداء به، يبقى واحداً، وقوامه بناء الموقف على قاعدة الإيمان بالحق بعيداً عن حسابات المصالح، والثبات على هذا الموقف حتى الاستشهاد إن اقتضى الأمر، طمعاً لا بمنفعة في العالم الذي نحن فيه، بل برضى الله وحسب”.
“وهذا النموذج تحديداً هو ما باعتناقه والعمل به يمكن المسيحي أن يصنف نفسه، بعيداً عن أي شبهة انفصام في شخصيته وبكل مصداقية، كحسيني في آن واحد. ولكن العكس، بطبيعة الحال، صحيح أيضاً، إذ على القاعدة نفسها وباعتماد النموذج عينه يستطيع الشيعي الحسيني، هو الآخر، أن يصنف نفسه كمسيحي في آن دونما خروج البتة من قبله على دينه، أو انفصام في شخصيته.
فبالتالي، إلى أين بنا من هنا؟ إلى خلاصة مركزية تجيزها لنا المقارنة الآنفة؛ وهي التالية: صحيح أن التباينات الفاصلة ما بيننا كلبنانيين، مسيحيين ومسلمين، على مستوى المعتقدات والتقاليد الدينية هي غير قليلة. ولكننا، في ما يعدو التباينات هذه، نبقى في الخلفية الأخلاقية والثقافية، أي خلفية إنسانيتنا، حاملين لإرث عظيم مشترك به تتمثل مرجعياتنا السلوكية المطلقة؛ عنيت به تحديداً النموذج السلوكي المسيحي ـ الحسيني القدوة الآنف ثبته.