
لا وقت لديه،انتهى الحديث و الكلام عنده منذ زمن بعيد،إن كلّمته هزّ رأسه وإن وجد في هزّ الرأس جهداً حرّك جفنيه و وسّع من امتداد شفتيه.
صار القيل والقال مصدرا ضجيج لا فائدة منه،على يقين انّ كل أحاديث الناس ليست غير ثرثرة و سببا اضافياً للمتاعب.
يتابع الاخبار ويسجل ملاحظاته على دفتر صغير ممنوع لمسه حتى من زوجته التي اعتادت على صمته منذ سنوات،يتفاهمان بالغمز واللمز والاشارات وحتى بالإيحاءات.
يواظب على عمله،لا يتأخر لحظة عن واجباته إنما بحد أدنى من الكلام والتعبير،لم يشتك من سلوكه احدٌ .
تؤكد زوجته انّه ينظّف ويفكك ويعيد تركيب مسدسه السوفياتي العتيق كل يوم ويعيد وضعه بإتقان هندسي في زاوية رفّ خزانة الملابس الخاصة به.
تقول زوجته انّه تارة يصوّب مسدسه نحو الجهاز المرئي وتارة نحو باب الغرفة و تارة باتجاه اريكة فارغة بقربه وتارة أخرى يوجّه فوهة المسدس نحو صدغ رأسه الأيمن او يُدخل فوهة المسدس في فمه أمام المرآة.
إن تناول الصحيفة تفقّد خانة الوفيات اوّلاً وإن استمع للموسيقى اختار الاغاني بلغة لا يتقنها كي لا يفهم المعاني لأنّه ما زال يٌفضّل وضع الكلمة والفكرة المناسبة في فراغات النص .
حاضر في كل مناسبات المآتم،يتأسف على الراحل وكأنّه صديقه وهو لم.يعرفه يوماً،يرمق المسجى في القبر نظرة حادّة قاطباً الجبين وكأنّه يتوعده لحين ينتهي حفّار القبور من تثبيت البلاط فوقه وردم التراب.
اهل بلدته ادرى به،لا يلومه ولا يعاتبه ولا يسأله احد اية خدمة،حاضر وغير موجود،غائب إنما له أثر.
قامته الطويلة و ضخامة جثته وصوته الأجشّ يجعلان منه رجلاً مهيباً في سكوته.
يوحي للجميع انّه يعلم كل شيء لذلك لا داع لتبادل الافكار.
تقول زوجته انّها رأته آخر مرّة وهو يقتحم بهدوء و يختفي في جدار معبد قريب واظب على التعبّد فيه .
مذ دخل الجدار لم يخرج ولم يعرف احداً عنه شيئاً.
تقول زوجته انّه في لحظة دخوله جدار المعبد كان يحمل مسدّسه السوفياتي وكان يقلّب صفحات دفتره الصغير وهو يهزّ برأسه وكأنه يتوعد شرّاً رجلا او امرأة او مجموعة او جيشا او سفارة او دولة او شعباً.
تقول زوجته انّه ربما كان في لحظة بدء غيابه يهدد نفسه بالويل والثبور.
د.احمد عياش
المقال يعبر عن رأي الكاتب وليس رأي الموقع، شكرا على المتابعة.