
دكتور جعجع، لا يختلف اثنان اليوم على أنك أصبحت الزعيم المسيحي الماروني اللبناني الأكثر حضورًا وتماسكًا، بل إن الدول الكبرى تدرك تمامًا أنك الرقم الأصعب في المعادلة المسيحية، لا بل اللبنانية. وربما أحد أسباب زعامتك، إلى جانب تاريخك في الدفاع عن المسيحيين، هو كرمك الذي يُمنع الحديث عنه بأمر منك شخصيًا، فحضرتك تطبق القول المأثور: “لا تدع شمالك تعلم ما تفعل يمينك”.
أتذكّر منذ أكثر من عشرين عامًا، أنني كنت في سهرة بأحد البيوت الكسروانية، وكان الحديث عنك. قال صاحب المنزل إنك دخلت مكاتب القوات والكتائب في الأشرفية، وكنت في كل مكان تقدم الهدايا، حتى أنك خرجت من الأشرفية أنت ومرافقيك دون ليرة واحدة، بعد أن وزّعتم كل ما في جيوبكم، بما في ذلك مصاريفكم الشخصية. وأضاف الرجل: “الحكيم كريم… ما حدا بيطلب منو خدمة إلا وبيعطيه كل اللي معه”.
لم أذكر هذه القصة للتغني بكرمك فقط، بل لأشير إلى أن ما يميزك عن معظم القيادات المارونية هو أنك لم تعش في برج عاجي، ولم تتصرف كأرستقراطي مفصول عن ناسه، بل بقيت ابن الأرض اللبنانية الأصيلة، والمنطلق من بين صفوف المسيحيين الفقراء فيها.
أودّ أيضًا أن ألفت نظرك إلى مسألة شديدة الدقة، وهي ما يدركه جيدًا رجال الكنيسة الذين حملوا على أكتافهم فكرة لبنان الكبير. هؤلاء الذين خبروا مئات السنين، خرجوا بعد قرون بخلاصة: لا لبنان من دون الشيعة، ولا شيعة من دون الموارنة، ولا موارنة دون الشيعة. معادلة لا تتغير مهما تبدّلت السياسات أو تبدّلت الجغرافيا.
وقد يُقال إن البطريرك الحويك رفض ضم الساحل السوري إلى لبنان حتى لا يتساوى الروم عددًا مع الموارنة، ورغم المظاهرات التي خرجت في سوريا ضد البطريركية المارونية، والتي صدحت بشعار: “رب تلاتين ولا جزين، والتركي لا بكركي”، لم تثني البطريرك عن اكمال رؤيته للبنان الذي لن يكون دون شيعة جبل عامل، كون الشيعة لا يمكنهم العيش بحرية في باكستان وأفغانستان وبلاد القوقاز، أو السفر إلى أوروبا وأمريكا، ولا حتى ممارسة معتقداتهم بحرية في بقية الدول العربية والإسلامية.
دكتور جعجع، الكنيسة اختارت التحالف مع الشيعة، حتى عندما كانت المنطقة تغلي بالتشدد الإسلامي، قبل أن تولد الدول العربية الحديثة وبعد نشؤها. وتذكّر خطاب الرئيس الشهيد بشير الجميل 14 ايلول 1982 حين قال: “بدنا نقدر نمارس مسيحيتنا بهالشرق، نعيش وراسنا مرفوع، من دون ما نكون بذمة حدا او يجي حدا يقلنا امشوا ع خط الشمال لأنه نحن مسيحيين أو يجبرونا نحط أي إشارة على جسمنا أو على تيابنا لينعرف إنه نحن مسيحيين”. كان يُعبّر عن هاجسٍ عمره أكثر من ألف عام.
الحقيقة يا حكيم أن الإسلام، في تشريعاته الفقهية، لا يستطيع أن يرى إلا من خلال منظاره الديني. حتى في البلدان التي تدّعي التعددية، تبقى السلطة حكرًا على الأكثرية الإسلامية. أنظر إلى تركيا: 300 ألف مسيحي، ولا وزير واحد بينهم. في مصر، ما يقارب 18 مليون مسيحي، ومنذ عام 1980 لم يتجاوز عدد الوزراء المسيحيين العشرين. أما في بقية الدول العربية، فالحضور المسيحي في السلطة نادر إن لم يكن معدومًا.
هذه هي الحقيقة المؤلمة التي يعرفها الغرب: لا مكان للأقليات في العالم العربي، الذي يمتد على أكثر من 13 مليون كيلومتر مربع، ويحتوي على ثلث ثروات الأرض، يعيش 470 مليون إنسان، من بينهم فقط 50 مليون شيعي، و16 مليون مسيحي (بينهم مليون ماروني فقط)، ومليون درزي، ومليونان من العلويين.
دكتور جعجع، الموارنة اختبروا الزعامة والأحزاب عبر أجيال، فمرّت الزعامات وبقيت الطائفة المارونية. أما الشيعة، فهذه أول تجربة سياسية حزبية يعيشونها، وربما يتعثرون ويتعلمون، وقد تنتهي بعض الأحزاب، لكن المهم أن تبقى الطائفة.
أنا، ابن البيت العتيق، أكتب هذه الكلمات وأعلم من يقرؤها. أعرف الكنيسة أكثر مما أعرف بعض المساجد، وأفهم الهمس المسيحي الذي لا يُقال في العلن. وأقول لك بصدق: لا يوجد خلاف ماروني-شيعي، ويجب ألا يوجد. قد يتشاجر اثنان من الطائفتين، لكن لا يجوز أن يُترجم ذلك إلى خلاف وجودي.
دكتور، أنا مع المنطق الذي يقول إنه لا يجوز أن يكون الشيعة أقوى من الموارنة، ولكن في الوقت نفسه، يجب على حضرتك وبقية الزعماء المسيحيين أن ترفضوا تمامًا أن يكون الشيعة والموارنة ضعفاء في هذا المشرق.
“دكتور الجميع يقبل أن تصرخ بكل قوتك في وجه الشيعي لتمنعه، لأسباب دولية، من الدفاع عن الفلسطيني. لكنك أنت، والمسيحيون عمومًا، تعلمون أن إسرائيل، كما المتطرفين الإسلاميين، ولكلٍ حساباته، سينتقمون من الشيعة — سواء لأسباب طائفية، أو لأنهم وقفوا مع فلسطين.”
“دكتور جعجع، الشيعة والموارنة كأنهما شخصان يقفان على لوح خشبي ممدود فوق حبل، كلٌ منهما في جهة مقابلة للآخر، وتحتهم وادٍ عميق؛ إن حافظا على التوازن بقيا، وإن سقط أحدهما سقط الآخر.”
السيد حسن نصرالله، حين حرر الجنوب، كان يرفض أن يُوجَّه كلام مسيء لأي مسيحي في المنطقة، لأنه كان يعلم أن الموارنة هم التوأم، هم الامتداد، هم الذات. الحاج محمد عفيف، الناطق الإعلامي باسم حزب الله، أخبرني ذات مرة أن السيد كان يرفض رفضًا قاطعًا أي إساءة حتى لفظية لأي لبناني، وخصوصًا القوات اللبنانية. وقد وثّقتُ هذا في مقالي بتاريخ 4 أيلول 2024 بعنوان: “حزب الله يكشف سرًّا ويرفض التعليقات القاسية على أي مكوّن ديني أو سياسي بما فيهم القوات اللبنانية”.
دكتور جعجع، إن كنت قرأتني يومًا، فستجد في كل مقالاتي حتى مع وجود السوريين احترامًا لشخصك، لا تملقًا، بل لأنني سمعت عنك من كثيرين، ما يفرض عليَّ الإنصاف. وأنا الذي واجهت السوريين من أجل السيادة، ودفعت الثمن، لا أكتب اليوم من خلفية طائفية، بل من منطلق وطني.
العالم الحديث لا يرحم الأقليات، فكيف إن كانت من “أقليات الأقليات”؟
العالم الجديد لن يتوقف عند مليون ماروني أو 300 ألف درزي ولا حتى مليون ونصف شيعي عاجزين عن زيارة مقام السيدة زينب في سوريا. العالم الجديد لن يذرف الدموع على مقتل عشرات الآلاف من النساء والأطفال لأي طائفة انتموا، بعد أن قُتل الأطفال ودُمرت غزة ولم يتحرك الضمير العالمي، أو قام إرهابي بتفجير نفسه في كنيسة أو حسينية في لبنان. العالم الجديد لن يقول لأهالي طرابلس ماذا تفعلون بحال رفعوا العلم السوري وأعلنوا انضمامهم إلى سوريا.
العالم الجديد يقوم على المصالح المادية فقط،
الم يصرح المبعوث الامريكي باراك، لنيويورك تايمز: أأن الإدارة الحالية تعتمد على مبدأ القوة كمدخل أساسي لتحقيق السلام. وقال: “الجميع في هذا الجوار لا يحترمون إلا القوة، وقد أرسى الرئيس ترامب قوة أمريكا كبادرة للسلام بكل المقاييس”.
هذا النهج يبتعد عن المحاولات السابقة لفرض الديمقراطية، ويركز بدلاً من ذلك على الصفقات التجارية المربحة وتحقيق الاستقرار من خلال موازين قوى واضحة.
في العالم الجديد لا مصلحة لأحد في أن يزعج العالم العربي أو حتى إسرائيل كرمال ثلاثة ملايين لبناني موزعين بين شيعة ومسيحيين ودروز.
السيد باراك، المبعوث الأمريكي، هو مستثمر جيد وصديق لرؤساء العالم، خاصة في دول الخليج، وحتمًا سيكون له حصة كبرى من إعمار سوريا. وما نبه إليه هو أن العالم يتقدم بخطى سريعة ويمضي قدمًا، ولبنان مهدد بأن يصبح خارج الزمن. وقد قال عن قناعة ووعي كامل إن على اللبنانيين التوقف عن كره بعضهم البعض، مؤكدًا أنه لا أحد، وخصوصًا أمريكا أو بريطانيا، مستعد للتدخل في لبنان.
الدول اليوم غير ما كانت عليه قبل نصف قرن. فهل نبقى نغرق في التخاصم، أم نتصالح لاجل الوطن؟
ناجي علي أمّهز
المقال يعبر عن رأي الكاتب وليس رأي الموقع، شكرا على المتابعة.