اخبار ومتفرقات

أحمد الزين… النجم الذي يحدق بالشمس، ليجسد قصة وطن

أن ندعو أحمد الزين “ممثلًا” هو أن نُصغِّر الظاهرة ونكتفي باللقب دون الجوهر. فهذا الرجل لم يأتِ ليمارس مهنة، بل ليؤدي شهادة. هو الجنوبي الذي لم يمشِ في أزقّة الوجع، بل كان هو الوجع ذاته وقد مُنِح صوتًا ووجهًا. كأن القدر اختاره لا ليعيد تمثيل الحكايات، بل ليقف شاهدًا أخيرًا على حقيقتنا قبل أن تذروها رياح الحداثة الزائفة.

يا لهذا الرجل اللبناني المكتمل الذي جاء ليؤرّخنا نحن، أهل هذه الأرض اللبنانية، بشخصياتنا المنسيّة في زوايا البيوت والدروب التي غنّت لها فيروز ونصري شمس الدين وزكي ناصيف، وكتب عنها جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة، واستشهد لأجلها رجالٌ كانت رحلتهم على الأرض قصيرةً ليظلّ لبنان.

أحمد الزين هو ماضينا الذي يرفض أن يموت، وحاضرنا الذي يقاوم النسيان، والمستقبل الذي يطرح السؤال الوجودي: ماذا يتبقى منا حين نخلع عنا جذورنا؟

في عالم التمثيل الذي يقدّس القناع، جاء الزين إلى الشاشة بروحه العارية، بقلبه الحافي. لم يكن “يمثّل”، بل كان “يشهد”. هناك فرقٌ جوهري بين من يتقمص دورًا ومن يصبح هو الدور، بين من يبكي بالتقنية ومن تنزل دمعته كقطرةٍ من نبع الذاكرة الجماعية. دمعته هي دمعة الأمهات الصابرات، وصرخته هي صدى غضب الآباء المقهورين.

حين كان يضحك، لم تكن ضحكته أداءً كوميديًا، بل كانت فعل مقاومة فلسفي؛ انتصار مؤقت للحياة على سطوة المأساة، وتأكيد على أن الإنسان، حتى في أحلك الظروف، قادرٌ على سرقة لحظة من الفرح ليثبت وجوده.

وُلِد في شحور، لا في مكان، بل في رحم المبدأ. لم يتعلّم في معهد مسرحي، بل تخرّج من مدرسة جبل عامل، حيث الحجارة تُعلّم الصمود، والتراب يمنح الهوية. لذلك، حين وقف أمام الكاميرا، لم يستدعِ نصًا مكتوبًا، بل استدعى أرواح الأجداد. “أبو حسين” في “الغالبون” لم يكن شخصية درامية، بل كان النموذج الأصلي (Archetype) للأب الجنوبي؛ ذلك المزيج من الحنان والصلابة، الذي يحمل بندقيته بيدٍ ومسبحته بالأخرى، وفي عقله إنجيلٌ وقرآن، وفي قلبه مسجدٌ وكنيسة، فهو لكل اللبنانيين.

وهنا تكمن عبقريته الفطرية؛ لم يكن بحاجة لدراسة شكسبير ليجسّد التراجيديا، فقد تعلّم كيف يقف صامدًا في وجه مصاعب الحياة. ولم يحتج أن يكون “روبرت تايلور” ليعيش الرومانسية الغربية، فالحب في عالمه أنقى وأرقى. كان رفضه لقبلة درامية بيانًا فنيًا مفاده أن الفن الذي يفقد حياءه يفقد روحه، وأن الجسد على الشاشة يجب أن يخدم الحقيقة لا الغريزة. وحين قبّل التراب، لم يكن يؤدي مشهدًا وطنيًا، بل كان يمارس طقسًا وجوديًا، يعيد به وصل ما انقطع بين الإنسان وأرضه.

في زمن يطارد فيه الفنانون “الترند” سريع الزوال، كان الزين يطارد الحقيقة الخالدة. لم يقل “أنا الممثل العظيم”، بل قالت كل تجعيدة في وجهه: “أنا تاريخكم الذي لا يزال يتنفس… أنا ضميركم الذي يرفض أن ينام. أنا والدكم وجاركم، وذلك العجوز الذي لا يطلب شيئًا سوى أن يعيش بكرامة، أو يستشهد لأجلها. أنا ابن البلد”.

مواقفه لم تكن تصريحات عابرة، بل كانت أعمدةً راسخة، كشجرةٍ جذورها في الجنوب وفروعها ظلٌّ فوق العالم العربي. إنه بوصلة في زمن الضياع، وجدار طيني في وجه طوفان الخيانة والتسطيح، نحتمي به لا من المطر فقط، بل من الخذلان.

في إنجلترا، يقرأون “هاملت” ليفهموا التردد والشك. أما نحن، فيكفي أن نشاهد نظرة من عيني أحمد الزين لنفهم معنى الثبات واليقين. هاملت كان أميرًا ضائعًا، أما الزين فهو فلاحٌ متجذّر يعرف طريقه جيدًا.

قد لا يحمل أحمد الزين جائزة أوسكار، والسبب أنه أكبر من مجرد ممثل. هو فنانٌ عظيمٌ جسّد ملامح شعبه في ذاكرة الأمة، فصار صورةً خالدة تُعزف لها سيمفونية الأبطال مع النشيد الوطني، حيث يقف الجميع احترامًا لأدوارٍ كرّست القيم والحقيقة.

في النهاية، أحمد الزين ليس ممثلًا… إنه ذاكرة وطنٍ تجسّدت في رجل، وحارسٌ أمين على حكايتنا التي لم تُروَ بالكامل بعد.

في أعماله، جعلنا نُحبّ الفقراء دون شفقة، ونحترم البسطاء دون تعالٍ. قدّم الجنوبي لا كمجرد مقاتل، بل كفيلسوف. وعلّمنا أن الموقف والمقاومة ليست سلاحًا فقط، بل موقفٌ وجبينٌ لا ينحني.

احمد الزين هو الذي يحدق بالشمس كالنجم في السماء، والبيروتي والجنوبي والطرابلسي والبقاعي وابن جبل لبنان كما أنه ابن جبل عامل.

نقل عن كل اللبنانيين حبهم لبعضهم وعاداتهم وفلكلورهم الذي يجمع،

وكأنه يحارب دعاة الفتنة والتقسيم بأسلوبه الذي هو أبلغ من ألف خطاب سياسي فارغ.

أحمد الزين هو الفن حين يكون مقاومة،

هو التمثيل حين يكون حياة،

وهو الحياة… حين ترفض أن تُصبح تمثيلًا.

زر الذهاب إلى الأعلى